هل ينجح ماكرون في إنقاذ ولايته الثانية؟

مدة القراءة 7 د


يستكمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطواته لإعادة إطلاق ولايته الثانية. فتعيين غبريال أتال رئيساً للحكومة، وهو الذي عيّن عشيقه وزيراً للخارجية، أحدث صدمة إيجابيّة، مع تشكيل حكومة مصغّرة من 14 وزيراً.

ماكرون أطلّ ليل الثلاثاء الفائت في مؤتمر صحافي “ماراتونيّ”، شارك فيه 250 صحافياً، على مدى ساعتين وربع ساعة، فسألوا وأجاب الرئيس في العديد من الملفّات الداخليّة وبعض الملفّات الخارجيّة، أبرزها الحرب في أوكرانيا وحرب غزّة التي تتمدّد نيرانها إلى لبنان والبحر الأحمر.

لا مجال للتعليق على كلّ ما قاله ماكرون في الشؤون الداخليّة. نكتفي بالإشارة إلى خمسة منها ستشكّل أولوية خلال الثلاث سنوات ونصف الباقية من ولايته الثانية.

يستكمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطواته لإعادة إطلاق ولايته الثانية. فتعيين غبريال أتال رئيساً للحكومة، وهو الذي عيّن عشيقه وزيراً للخارجية، أحدث صدمة إيجابيّة، مع تشكيل حكومة مصغّرة من 14 وزيراً

صحّة التعليم ومعاناة الصحّة

استفاض الرئيس الفرنسيّ في الكلام عن ملفّ المدارس والتعليم الذي يمرّ بأزمة ثلاثيّة الأسباب:

1- تراجع مستوى الطلاب الفرنسيين. بحسب تقرير “البرنامج العالميّ لمتابعة التعليم للتلامذة” (PISA) الصادر قبل أسابيع فقط، في كانون الأول 2023، تراجع ترتيب فرنسا العالمي 21 نقطة. اللافت في الإحصاء احتلال دول آسيوية (سنغافورة واليابان وتايوان وكوريا الجنوبيّة) المراتب الأولى متقدّمة بذلك على دول متطوّرة مثل الولايات المتحدة الأميركيّة وكندا وألمانيا وبريطانيا.

2- النقص في عدد المدرّسين. بحسب إحصاء PISA، في 2022 فإنّ 67% من التلامذة الفرنسيين يتعلّمون في مدارس تعاني من نقص في الأساتذة. في حين كانت هذه النسبة 17% في 2018.

3- بقاء الشباب الفرنسيّ أمام الشاشات لساعات خلال اليوم. وهي قضيّة عالميّة لم يجد الباحثون والمربّون والمسؤولون الحلّ لها.

كما تطرّق بالتفصيل إلى القطاع الصحّيّ لثلاثة أسباب مترابطة:

1- النقص في عدد الأطبّاء والطواقم الطبّيّة.

2- وجود “صحارى طبّيّة” كما سمّاها ماكرون، أي افتقاد مناطق فرنسيّة للأطبّاء.

3- اكتظاظ المستشفيات وصعوبة الحصول على موعد مع طبيب.

هجوم على اليمين المتطرّف

سياسياً تميّز مؤتمر ماكرون بهجوم حادّ على اليمين المتطرّف. اتّهمه بـ”الكذب” وبـ”إفقار جماعيّ” للفرنسيين. وأكّد أنّه مستمرّ في مواجهة هذا التيار الذي لا يملك مشروعاً للحكم ويبدّل قناعاته وطروحاته. وأعطى مثالاً كيف تحوّل من الرفض الكلّيّ للاتّحاد الأوروبيّ إلى القبول به ورفض معاهداته! سبب هذا أنّ المواجهة الرئاسية في 2027، كما تبدو من اليوم، ستكون بين “التجمّع الوطنيّ” بزعامة مارين لوبان، وحزب “النهضة” بزعامة ماكرون. وقال إنّه سيفعل كلّ شيء لعدم وصول لوبان إلى الإليزيه.

تعيينه أتال رئيساً للحكومة، في جزء منه هو لمواجهة الحزب اليمينيّ المتطرّف الذي يرأسه حالياً جوردان بارديلا، وهو سياسيّ شابّ (29 عاماً) ديناميكيّ وحيويّ. خطابه يستقطب الشباب الفرنسيّ.

أوكرانيا والبحر الأحمر

في الملفّات الخارجيّة تطرّق ماكرون أوّلاً إلى الحرب في أوكرانيا. إجاباته أظهرت أن لا حلّ لها في القريب العاجل. وكشف عن توقيع “اتفاق ثنائي” مع كييف التي سيزورها في شباط المقبل. وشدّد على أنّ فرنسا مستمرّة في التنسيق مع دول الاتّحاد والحلفاء لتزويد كييف بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر ومعدّات حربيّة لمواجهة روسيا: “لن ندع روسيا تنتصر في هذه الحرب”، قال ماكرون.

أمّا في موضوع هجمات الحوثيين على البواخر في البحر الأحمر، فقال إنّ فرنسا لم تنضمّ إلى تحالف “حارس الازدهار” والضربات الوقائية تحاشياً لـ”انزلاق” الأوضاع. وأضاف أنّ فرنسا عملت وتعمل لتأمين حرّيّة الملاحة في البحر الأحمر.

لكن كيف؟

وهل يمكن تنفيذ هذه المهمّة دون ضرب الحوثيين ومنع الإمداد العسكريّ الإيرانيّ عنهم؟

لم يُطرح السؤال!

وماكرون لم يوضح!

ثمانية تلفزيونات فرنسيّة نقلت مباشرة المؤتمر الصحافي لماكرون. على الرغم من ذلك لم يتخطَّ عدد المشاهدين 9 ملايين، أي 41.6% ممّن يشاهدون التلفزيون في هذا الوقت

غزّة ولبنان

على خلاف إجاباته في الملفّات الداخليّة، اتّسمت إجابته على الأسئلة حول الحرب في غزّة ولبنان بالارتباك وعدم الوضوح، كما هي الحال منذ بدء هذه الحرب. لم يأتِ كلامه بجديد، وأكّد أنّ فرنسا ستستمرّ في الضغط من أجل وقف إطلاق للنار، وتدمير الإرهابيين، وإقامة الدولة الفلسطينيّة. وتبنّى السردية الإسرائيليّة – الأميركيّة بأنّ حماس “تخزّن الأسلحة تحت المدارس وفي المستشفيات وتتّخذ من المدنيين دروعاً بشريّة”.

أمّا في موضوع لبنان، فأكّد أنّ “فرنسا متمسّكة بالاستقرار والسلام في لبنان وبعدم تمدّد الحرب إليه”. وقامت بإيصال “رسائل مباشرة وغير مباشرة للأطراف السياسيّة اللبنانيّة وللمجموعات المسلّحة الإرهابية في لبنان” (في إشارة إلى الحزب). وهذا ما تعمل لأجله منذ بداية الحرب في غزّة. وأكّد أنّ فرنسا على اتّصال دائم مع طرفَي النزاع من أجل إيقافها. وشدّد على أنّ “مسؤولية احترام تطبيق القرار 1701 تقع على عاتق الطرفين”.

صعوبات في الداخل

ما أعلنه ماكرون في مؤتمره الصحافي طموح جداً في الملفّات الداخليّة كما في السياسات الدفاعيّة والأوروبيّة والعالميّة. هي طموحاته منذ وصوله إلى السلطة (2017). بيد أنّ إنجازاته ضعيفة. في الداخل أنجز بعض الإصلاحات باللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور، التي تعطيه صلاحية التقرير بلا حاجة إلى أغلبية، وليس بقوّة الأغلبية في الجمعيّة الوطنيّة، وهو ما أدّى إلى تراجع شعبيّته بشكل كبير (ما دون الـ 30%).

أسباب اللجوء إلى الـ49.3 لا يتحمّلها فقط ماكرون وحكومته السابقة. فالمعارضة تتحمّل جزءاً من خلال عرقلة إصلاحات تعلم أنّه لا بدّ من القيام بها. فهي مؤجّلة منذ عقود. وسياسة الهروب إلى الأمام لم تعد تنفع. كما يتحمّل المسؤولية أيضاً الشعب الفرنسيّ. فهو شعب اعتاد على “نظام اجتماعي كريم جداً”، كما قال ماكرون. لا يحبّ العمل كثيراً. العام الماضي تظاهر الفرنسيون لأسابيع رفضاً لزيادة بضعة أشهر على سنوات العمل قبل التقاعد. عِلماً أنّ ساعات العمل الأسبوعية في فرنسا 35 ساعة، بينما هي 40 ساعة في غالبية الدول. ويعتبر الفرنسيون التقديمات الاجتماعية حقّاً مكتسباً. يرفضون المسّ بأيّ منها على الرغم من علمهم بعجز صناديق هذه التقديمات الذي بلغ عشرات المليارات من اليوروات.

ضعف أوروبيّ

أوروبيّاً، يطمح ماكرون إلى اتحاد أوروبيّ قويّ سياسياً واقتصادياً ليكون قطباً ثالثاً بموازاة القطبين الصينيّ (الذي ذكره أكثر من مرّة في مؤتمره الصحافي) والأميركيّ. ويطمح لأن تكون لديه قوّة عسكريّة مستقلّة قادرة على حماية أوروبا ومصالحها في العالم. لكنّه مشروع بعيد المنال. وكلّ مرّة يتقدّم الاتحاد خطوة في مجال التسلّح والتكنولوجيا العسكريّة، يكون القطبان الآخران قد نفّذا خطواتٍ جديدةً على الرغم من زيادة بعض دوله (خاصّة ألمانيا وفرنسا) ميزانياتها العسكريّة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.

إقرأ أيضاً: إيران تورّط أذرعها.. وتهرب من “المواجهة”

نكسات خارجيّة

من الطبيعي ألّا يتطرّق ماكرون إلى الملفّات الخارجيّة التي تعرّضت فيها السياسة الخارجية لإخفاقات، وسجّلت تراجعاً كبيراً وأساءت إلى حضور فرنسا العالميّ. بيد أنّ اللافت عدم طرح أيّ من الصحافيين سؤالاً عنها، عِلماً أنّ فرنسا تعرّضت، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لسلسلة من النكسات في إفريقيا أدّت إلى خسارتها النفوذ في المستعمرات السابقة. كما فشلت مبادرتها في لبنان فشلاً ذريعاً.

ثمانية تلفزيونات فرنسيّة نقلت مباشرة المؤتمر الصحافي لماكرون. على الرغم من ذلك لم يتخطَّ عدد المشاهدين 9 ملايين، أي 41.6% ممّن يشاهدون التلفزيون في هذا الوقت (Prime time). وهو ما يشير إلى عدم اكتراث غالبية الفرنسيين لما يقوله رئيسهم، وبالتالي عدم حماستهم لملاقاته في إعادة إطلاق ولايته.

فهل سينجح غبريال أتال، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الفرنسيين، في تغيير هذا الوضع من خلال أدائه وأداء حكومته؟

التحدّيات كبيرة داخلياً وخارجياً. والمهمّة تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة..

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…