لا يمكن لعام 2024 إلا أن يكون عاماً فلسطينياً بامتياز. حدث “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول الماضي له ما بعده في العام الجديد. وهذا الـ “بعد” ليس فلسطينياً فقط، بل إسرائيليّ أوّلاً، ثمّ إقليمي ودولي، ولا يمكن إلا أن يحرّك أعمدة تجمّدت منذ أكثر من عقدين.
لا تشبه الحرب الأخيرة في غزة أيّة حروب أخرى. حتى إنّها، في تموضع العالم أجمع حولها، بدت أهمّ وأخطر من تلك التي شنّتها روسيا ضدّ أوكرانيا منذ شباط 2022. وإذا ما كان الغرب بأجمعه قد اصطفّ دعماً لأوكرانيا وبات أشدّ اقتناعاً بصعوبة تسجيل نصر أوكراني بالوسائل العسكرية، فإنّ الغرب الذي اندفع غرائزياً لدعم إسرائيل، يكتشف، بزعامة الولايات المتحدة، ولمناسبة “طوفان الأقصى”، أن لا حلّ عسكريّاً للصراع في غزة.
سواء أكان في هذا “الاكتشاف” قناعة أو نفاق، فإنّ الوقائع أثبتت نهاية التفوّق العسكري الإسرائيلي من حيث القدرة على الحسم السريع بعدّة أيام على منوال ما حصل في حزيران 1967، ونهاية الرشاقة العسكرية في فرض وقائع ميدانية كما حصل في حرب تشرين 1973، ونهاية السهولة والسيولة في التمدّد والاجتياح كما حصل ضدّ لبنان في عام 1982.
أسئلة وجودية على إسرائيل
يطرح عام 2024 أسئلة وجودية غير مسبوقة على إسرائيل. فإذا ما كان هاجس الوجود والفناء صاحبَ السردية الإسرائيلية في النهل من “تأريخ” توراتيّ أو من حدث الهولوكوست، فإنّ صفعة “الطوفان” أيقظت لدى الوعي الجمعيّ الإسرائيلي حقيقة أنّ القوة العسكرية لا تستطيع حماية إسرائيل وأنّ “الطوفان” لو انطلق افتراضاً من الضفة الغربية أيضاً مع انطلاقه من غزة (من دون الحديث عن انطلاقه من جبهات عربية أخرى) لسقطت هياكل أمن إسرائيل والإسرائيليين حتى لو أنّ الأمر لا يشكّل تهديداً مباشراً لـ”الوجود”.
في عام 2024 يفترض أن تدفع النخبة السياسية الإسرائيلية الثمن. سيشهد العام جدلاً مجتمعياً عقائدياً وسياسياً بشأن وجاهة “الخيار الأمنيّ” في حماية الدولة
في عام 2024 يفترض أن تدفع النخبة السياسية الإسرائيلية الثمن. سيشهد العام جدلاً مجتمعياً عقائدياً وسياسياً بشأن وجاهة “الخيار الأمنيّ” في حماية الدولة. في المدى القصير سيبقى الخيار العسكري متقدّماً وضرورياً لاستعادة ثقة المجتمع بجيشه حتى لو أنّ إنجاز الردع يقوم على مجازر ضدّ المدنيين. غير أنّه من داخل هذه المكابرة، ستطلّ على المديين المتوسط والطويل أسئلة بدأت أصوات تعترف بها بشأن الديمغرافيا الفلسطينية والحقيقة الفلسطينية التي ما برح الإسرائيليون يميناً ويساراً ينكرونها. وإذا ما باتت بدائل الخيار الأمنيّ ضرورة، فإنّه ليس أكيداً أن تأتي الانتخابات المقبلة بالتحوّلات العجائبية.
لا يمكن لأيّ تطوّر في الفكر السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي أن يحدث من دون أن يتأثّر بتغيّر مفصليّ وهيكليّ في علاقة الغرب قيَماً ومنظومةً ومصالح مع إسرائيل. وبغضّ النظر عمّا ظهر من تشقّقات في علاقة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع القيادة الإسرائيلية، ومن تبدّل مواقف دول غربية (أوروبا، بريطانيا، كندا… إلخ) لجهة بدء دعم محاولات أممية لوقف إطلاق النار، إلّا أنّ إسرائيل ما زالت تشعر بالرعاية الغربية التامّة لموقفها. حتى إنّ جلسات الاستماع التي جرت في الكونغرس الأميركي لمسؤولي جامعات أميركية بشأن قضايا معاداة السامية بدت أشبه بـ “محاكم التفتيش” دفاعاً عن موقف إسرائيل.
مع ذلك فإنّ الحديث الدولي، لا سيما من قبل الولايات المتحدة هذه المرّة، عن تسوية سياسية تقود إلى “حلّ الدولتين”، سيشكّل، إذا ما أظهر جدّية، تحوّلاً دولياً ضاغطاً على إسرائيل باتجاه خيارات تمّ إسقاطها من الخطاب السياسي الإسرائيلي منذ اغتيال رئيس الحكومة إسحق رابين عام 1995. صحيح أنّ التحوّل الأميركي قد يكون تكتيكيّاً على علاقة بظروف حرب غزة وفضيحتها الإنسانية، وبظروف حملة الانتخابات الرئاسية للمرشّح بايدن، غير أنّ التحوّل يقوم أيضاً على حسابات المصالح الأميركية في مقاربة الشرق الأوسط، كما إدارتها للصراع ضدّ الخصوم، وخصوصاً ذلك الاستراتيجي مع الصين.
لا يمكن لأيّ تطوّر في الفكر السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي أن يحدث من دون أن يتأثّر بتغيّر مفصليّ وهيكليّ في علاقة الغرب قيَماً ومنظومةً ومصالح مع إسرائيل
العرب والقضية الفلسطينية
سيكون عام 2024 واجهة للموقف العربي اللافت حيال القضية الفلسطينية. اتّخذت المجموعة العربية (وقد زالت منها تشكّلات دول الصمود والتصدّي والدول الأيديولوجية القومية واليسارية) موقفاً واحداً منسجماً دعماً للفلسطينيين. جاء الموقف واضحاً حاسماً حازماً في إدانة الحرب التي تشنّها إسرائيل ضدّ قطاع غزة (والضفة الغربية) والمطالبة بوقف إطلاق النار والدفع لاحقاً بالذهاب إلى الحلّ السياسي النهائي وإقامة دولة فلسطينية على حدود 4 حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية (وفق المبادرة العربية التي صادقت عليها القمّة العربية في بيروت في عام 2002).
يقوم الموقف العربي على مجموعة من الظواهر في عام 2023 كشفت نزوعاً نحو “التمرّد” على السياسة الأميركية في ملفّات الطاقة وحرب أوكرانيا والعلاقة مع الشرق (روسيا والصين خصوصاً). وإذا ما انتهزت الولايات المتحدة “مناسبة” غزّة لإعادة الدفع بترسانتها نحو الشرق الأوسط، إلا أنّ واشنطن بدت أكثر وعياً وإعلاناً أن لا سياسة أميركية في المنطقة من دون الاتفاق مع عواصمها. باتت المنطقة بما أوحت به القمّة العربية الإسلامية في الرياض في 11 تشرين الثاني مجمعة على أنّ حلّ “القضية الفلسطينية” لم يعد شعاراً، بل ضرورة وحتمية تقوم عليهما كلّ برامج التنمية، وحتى طموحات إقليمية دولية كممرّ الهند – أوروبا وغيرها من الطموحات العابرة للقارّات.
قد تحدّد إدارة قطاع غزة بعد الحرب الخارطة التي ستتشكّل وفقها مسارات مستقبل القضية الفلسطينية. وإذا ما كان الموقف العربي، والمصري والأردني خصوصاً، حازماً في رفض أيّ تهجير جماعي للفلسطينيين، فإنّ عام 2024 يفترض أن يكون حاسماً في مسألة ترتيب البيت الفلسطيني. صحيح أنّ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس استخدم أيضاً هذا التعبير في معرض إبدائه استعداد حماس لهذا الترتيب، إلا أنّه لم يُظهر الفلسطينيون، ربّما بسبب صخب الحرب في غزة، أيّة همّة حقيقية لإعداد البيت الفلسطيني لما بعد الحرب في غزة. ففيما يزدهر الكلام عن مؤتمر دولي وهمّة لحلّ سياسي نهائي، يزدهر أيضاً كلام عن إقصاء حماس عن الحلّ أو “تأهيل” بعضها للحلّ، ويزدهر أيضاً كلام عن عدم تمثيل السلطة الفلسطينية للمشهد الفلسطيني، وهو ما يستدعي الاهتداء إلى واجهة جديدة.
إقرأ أيضاً: عام نهاية القانون الدوليّ
الحال أنّ زلزال الطوفان لم يسمح للعقل الفلسطيني بإنتاج قراءة استراتيجية تؤسّس للأداء السياسي المقبل. بدا الطرف الفلسطيني متفاجئاً بحدث “الطوفان”، وبجنون الردّ الإسرائيلي، وبتسونامي الدعم الغربي لإسرائيل، وباستعادة فلسطين لموقعها الأوّلي داخل الأجندة العربية. صحيح أنّ إعادة تشكيل السلطة التي تمثّل الفلسطينيين تحتاج إلى معجزة اتفاق تاريخي بين كلّ الفصائل الفلسطينية وإلى انتخابات تجدّد هياكل القيادة، لكنّها تحتاج أيضاً إلى انخراط دولي عربي إقليمي يفرج عن القادة في سجون إسرائيل ويتيح ظروف تأهيل شريك فلسطيني لتسوية تاريخية تحتاج أيضاً إلى تأهيل الشريك في إسرائيل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@