هل تسحب العملة الرقمية دولارات البيوت؟

مدة القراءة 8 د


منذ أيام، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنّ المركزي يستعدّ لإطلاق عملته الرقمية خلال العام 2021. هو الذي حارب بكلّ قواه لمنع المصارف من الانخراط في لعبة العملات الرقمية، لما تحويه من احتمالات في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وصولاً إلى الالتفاف على العقوبات، قرّر أخيراً خلق عملة افتراضية خاصة به.

يأتي تلميح سلامة الى نيّته خلق “عملة لبنانية رقمية” من خارج السياق الطبيعي للأزمة المالية والنقدية في لبنان، ليشكّل مواجهة جديدة مع المجتمع الدولي، المتمسّك بالتحقيق الجنائي في مصرف لبنان.

وقد تزامن الإعلان عنها مع تبرّم سلامة من “وجود 10 مليارات دولار في بيوت اللبنانيين”، فهل عين سلامة على هذه الدولارات من خلال اختراع العملة الرقمية؟ وهل نصير أمام دولار جديد يضاف إلى الدولارات الثلاثة: دولار المصارف (3900)، ودولار السوق (7000 – 8000) ودولار مصرف لبنان (1500)؟

من حيث المبدأ، فإنّ صندوق النقد هو المولج دولياً، بالتنسيق مع مؤسسات أخرى، لتقييم السياسات المتعلقة بالعملات الرقمية للبنوك المركزية حول العالم بهدف تحسين أنظمة الدفع. وهو يمارس لهذه الغاية برامج مراقبة حازمة لتقييم القطاع المالي، وتقديم مساعدته الفنية، وحتّى المشورة بشأن التشريعات المتعلقة بالمدفوعات الرقمية، وصولاً إلى مراجعة خطط إصدارات العملة الرقمية بأدقّ تفاصيلها. وبالتالي فإنّ أي اختراع لعملة رقمية لن يكون بمباركته.

من وجهة نظر مصرف لبنان، تنطلق هذه الخطوة من محاولة مكافحة الأزمة الاقتصادية المالية العاصفة بالبلاد في محاولة لتعزيز الثقة المفقودة بالنظام المصرفي. وبرأي سلامة، سيساعد هذا المشروع في تطبيق نظام مالي غير نقدي لتفعيل تدفق الأموال محليًا وخارجيًا…

كثيرة هي التساؤلات المحيطة بالقرار، خصوصاً وأنّ استصدار عملة رقمية، مدمجة كانت أو بديلة، في زمن أزمة نقدية غير مسبوقة يحمل عدة دلالات، والأمثلة العالمية على ذلك متنوّعة. وخلافاً لما يشاع، فإن استنباط عملة رقمية لبنانية، يتطلّب نسب احتياطات وافرة بالعملة الأجنبية، يخصّصها “المركزي” لهذه الغاية. في الإطار عينه، يقوم خبراء صندوق النقد الدولي بالتحقيق في الانعكاسات الدولية للعملة الرقمية. إذ يمكن للعملات الرقمية لبنوك بعض الدول المركزية أن تفاقم سوءاً أوضاع الاقتصادات المدولرة، تحديداً حيث نسب التضخم هستيرية وأسعار الصرف متقلّبة. كلّ هذه الآفاق بحاجة إلى مزيد من الدراسات لفهم الآثار المترتّبة على النظام المالي الدولي.

تستوجب عملية خلق عملة جديدة، قيام السلطة التشريعية بدورها الدستوري. فالمسألة هنا وطنية بامتياز، بما أنّ النقود في صلب العقد الاجتماعي الذي يحدّد هوية لبنان على قاعدة التوازن والاستمرارية. غير أنّ السلطة السياسية شرّعت إصدار عملة رقمية ضمن القانون 81/2018 المتعلّق بالمعاملات الإلكترونية العادية بين الأفراد.

حينها “هُرّبت” المادة 61 التي تنصّ على “تحديد الأنظمة الصادرة عن مصرف لبنان ماهية النقود الإلكترونية والرقمية وكيفية إصدارها واستعمالها والتقنيات والأنظمة التي ترعاها”. ذلك مع الإشارة إلى أنّ هذه المادّة ليست تعديلاً لقانون النقد والتسليف الذي يحدّد بوضوح مهام البنك المركزي.

ومع فقدان الدولة اللبنانية الائتمان المالي من جهة وعجزها عن استعادة استدامتها المالية من جهة أخرى، فإنّ السؤال المطروح هنا يتناول مدى توافق التشريع الحالي وملاءمته لمقتضيات الائتمان والاستدامة، باعتبار العنصرين ضروريين لإصدار عملة وطنية رقمية.

في حديث مع “أساس” تفنّد الأستاذة الجامعية المتخصّصة في القوانين المصرفية والمالية الدكتورة سابين الكيك كيف “يترافق إصدار العملة الرقمية مع جملة عوائق قانونية وتنظيمية في أيّ دولة. هذه العقبات تتضاعف لبنانياً، حيث الدولة غارقة في وحول أزماتها.”

وتوضح الكيك “أنّ أولى التحدّيات تتعلّق بكيفية احتواء المخاطر المحتملة للعملة الرقمية المنوي إصدارها من قبل مصرف مركزي أفقد النقد الورقي كلّ مقوّمات استقراره، فتراكمت تداعيات اجتماعية أعاقت أدنى مستويات الحياة المدنية في لبنان. لذا، تتمثّل التحدّيات أمام مصرف لبنان المتعثّر، بإمكانية طرح “عملة رقمية” موضع التداول، فيما تواجه إدارته للسياسة النقدية الوطنية نقمةً شعبيةً وسياسيةً وفقداناً للثقة اقتصادياً ومالياً، لا سيما في حال ترتّبت عوائد على حيازة هذه العملات وتداولها، إن لم تكن فقط كوسيلة للمدفوعات، وإنما أيضاً كمخزن للقيمة، وهو ما يُمكن أن يؤثر مباشرة في الودائع المصرفية، ويضعف من قدرة البنوك اللبنانية، المتوقّفة أصلاً عن ممارسة نشاطها الطبيعي، على خلق النقود الائتمانية لتدوير عجلة الإقتصاد الراكد”.

وترى الكيك أنّ “طرح هذه العملة كأداة تخزين للقيمة تؤثر مباشرة في فاعلية أدوات السياسة النقدية المعتمدة في النظام المصرفي اللبناني ومن أهمها سعر الفائدة، وتعاملات السوق المفتوحة، والاحتياطي النقدي وغيرها”.

لا بدّ من الإضاءة هنا على تقلّبات الأسعار التي واجهت العملة الرقمية منذ نشأتها، لهذا لم نرها يوماً تحظى بالثقة. فهي ببساطة لا تشكّل عامل استقرار. واذا كانت الـcryptocurrency (عملة رقمية مشفرة)، مبغوضة من المصارف المركزية لاستخدامها في عمليات تمويل الإرهاب والالتفاف على العقوبات، فإنّ العملات الرقمية التي يصدرها البنك المركزي (“CBDC”- Central Bank Digital Currencies)، والتي تُلزم تخصيص احتياطات لدعمها، هي موضوع معقّد ومتعدّد التخصّصات، ويتطلّب تحليلاً ودراسة نشطَين.

الكيك تذكّر بأنّ “قانون النقد والتسليف، بموجب المادة 11، يمنع إصدار أو وضع في التداول أو قبول: جميع السمات المحرّرة بالعملة اللبنانية لاستعمالها كوسائل دفع بدلاً من السمات النقدية المجازة قانوناً.”

ولا يملك مصرف لبنان بموجب المادة 4 من قانون النقد والتسليف إلا صلاحية إصدار السمات النقدية من فئة الأوراق النقدية أو القطع المعدنية أو القطع الذهبية شرط أن تجاز هذه الأخيرة بقانون يسمح بإعادة قيمة الأوراق النقدية بالذهب على أن تحدّد مميزات القطع الذهبية وشروط إصدارها بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء.

كما تنصّ المادتان 7 و 8 منه على القوة الإبرائية لكلّ من الفئات الورقية التي استبدلت العملة المعدنية.

وفي ظلّ التناقض الموجود بين المادة 61 من قانون المعاملات الإلكترونية وبين أحكام قانون النقد والتسليف، نؤكد الكيك أنّ “هذا الآخير ينتزع عن المهنة المصرفية كلّ القواعد العامة التي تتعارض معه، وتعتبر نصوصه بمعظمها إلزامية لتعلّقها بالنظام العام الاقتصادي (هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، رقم 150/1979)”.

إلى ذلك، تقول الكيك إنه “تماشياً مع ما سبق، فإنّ المشرّع اللبناني ينتهج مساراً واضحاً، في كلّ مرة يرى ضرورة التدخل لتوسيع مهام المصرف المركزي. على سبيل المثال عندما عدّل بموجب القانون رقم 133/1999 مهام مصرف لبنان المحدّدة في المادة 70 من قانون النقد والتسليف لتشمل تطوير وتنظيم وسائل وأنظمة الدفع الخاصة بالعمليات الجارية عن طريق الصرّاف الآلي، وبطاقات الائتمان، وعمليات التحاويل الإلكترونية، وعمليات المقاصة والتسوية العائدة لمختلف وسائل الدفع والأدوات المالية، بما فيها الأسهم والسندات التجارية. كما أوكله مهمة تنظيم المعاملات الإلكترونية وبطاقات الدفع والأسهم دون أن يأتي على ذكر العملة الرقمية، الأمر الذي يَدلّ على اعتبار صلاحية إصدار العملة الرقمية غير مشمولة بهذه المهمة التنظيمية للشؤون المصرفية الإلكترونية.

باختصار، تستدعي صلاحية طرح العملة الرقمية حتماً تعديل نصوص قانون النقد والتسليف وإلا ستُخلق كتلة نقدية في السوق المحلية من خارج سياق النظام العام.”

كما تثير هذه القضية أسئلة تتعلّق بالسياسة النقدية والعمليات المصرفية المركزية وأنظمة الدفع، فضلاً عن الاستقرار المالي والأسس واللوائح المالية القانونية. فالـ  stablecoin(العملة المستقرّة) هي النسخة النقدية الرقمية ذات الثقة في المؤسسات الدولية التي تعنى بسلامة النقد. وهي كما يحدّدها البنك المركزي الأوروبي: “وحدات رقمية”، لا تشكّل في حدّ ذاتها أيّ شكل من أشكال أيّ عملة محدّدة (أو سلّة منها)، لكنّ قيمتها مرتبطة بمجموعة من أدوات التثبيت (كاحتياطي الذهب، أو احتياطي بالعملة الورقية او احتياطي Algorithmic) بهدف تقليل التذبذبات الحادّة في أسعارها. تختلف أدوات التثبيت، بحسب مستويات الاستقرار المرتبطة بكلّ أداة من هذه الأدوات ومستوى التعقيد المصاحب لها. فكلما زادت بساطة أدوات التثبيت، زادت معها مستويات استقرار الأصول المُشفّرة المرتبطة بها، وكلما ارتفعت مستويات تعقّدها، انخفضت نسب استقرار العملات المستقرّة المرتبطة بها.

ونعرف أنّ العديد من البنوك المركزية العالمية تسعى إلى دراسة الفرص التي يوفّرها إصدار مثل هذه العملات وفق أطر تشاركية تعدّدية مع البنوك المركزية الأخرى، بهدف التقييم الدقيق لتلك المكاسب، وكذلك التحوّط ضدّ أيّ مخاطر محتملة. وفيما تتضافر الجهود القانونية والتقنية داخل المؤسسات الدولية مثل “بازل” أو الاتحاد الأوروبي، بموازاة المساعي البرلمانية في مختلف الدول الكبرى، لإحاطة العملة الرقمية بمقتضيات ومعايير حوكمة المال لإضفاء مزيد من الثقة والاستقرار على هذا الشكل الجديد من النقود، يأتي تلميح حاكم مصرف لبنان وقراره هذا لما يفرضه من استثمارات فيما البنى التحتية مهترئة… ليزيد من الإرباك المالي لدى المنظومة المصرفية ككلّ.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…