لا يمكن أن يكون صادراً من فراغ الموقف الأخير الذي أعلنه الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن في حديثه الصحافي مع توماس فريدمان لصحيفة “نيويورك تايمز”، المتعلق بالاتفاق النووي مع إيران والأليات التي تحكم قرار عودة واشنطن إليه، ومع اعترافه بصعوبة العودة إلى المسار السابق من دون إدخال تعديلات على طبيعة هذا الاتفاق وضرورة أن يشمل أيّ تفاوض مقبل ملفّ البرنامح الصاروخي الإيراني وبشكل آخر النفوذ الإقليمي للنظام الإيراني.
فالإدارة الجديدة وفي مقدمتها الرئيس ستكون أمام تحدّي تكريس الدور والموقع الأميركي في الإمساك بمفاتيح اللعبة الدولية وتحديداً في رسم خارطة منطقة غرب آسيا وقلبها الشرق أوسطي، خصوصاً إذا قرّرت هذه الإدارة المضي باستراتيجيتها في تقليص وخفض وجودها المباشر – العسكري – في هذا الإقليم من دون أن يعني ذلك التخلّي عنه لصالح أي لاعب آخر دولي أو إقليمي.
النقاط المفتاحية في كلام الرئيس المنتخب تركزت حول عناوين واضحة غير قابلة للتأويل، ومن المفترض أن تحدّد الإطار العام للسياسة الأميركية في المرحلة المقبلة وآليات تعاملها مع “المعضلة” الإيرانية، وهذه النقاط هي:
1 – العودة الى الاتفاق النووي بشرط إعادة إنتاجه بحيث يقطع الطريق على أي إمكانية لتحويل إيران إلى قوّة نووية قريبة من إنتاج اسلحة دمار شامل. وهذا يعني إدخال تعديل على البنود ذات الجداول الزمنية التي ترفع القيود عن أنشطة طهران في المستقبل.
2 – تعديل البنود المتعلقة بالجداول الزمنية التي فرضت حظراً على تطوير البرنامج الصاروخي وصناعاته، بحيث لا يعود يشكل ورقة تسمح لإيران بتهديد استقرار المنطقة، ويمنح حلفاء واشنطن حالة من الاطمئنان بعيداً عن أي تهديد محتمل أو كامن.
3 – إعادة ترتيب النفوذ الاقليمي لإيران، وكسر الحلقة التي سمحت لطهران بالتأثير واستلحاق العديد من العواصم والساحات العربية وحوّلتها إلى منصة لتوجيه الرسائل إلى المحيط الاقليمي والعواصم الدولية.
الإدارة الجديدة وفي مقدمتها الرئيس ستكون أمام تحدّي تكريس الدور والموقع الأميركي في الإمساك بمفاتيح اللعبة الدولية وتحديداً في رسم خارطة منطقة غرب آسيا وقلبها الشرق أوسطي، خصوصاً إذا قرّرت هذه الإدارة المضي باستراتيجيتها في تقليص وخفض وجودها المباشر – العسكري – في هذا الإقليم
وفي تشريح هذه الأبعاد والأطر أو المسارات التي حدّدها الرئيس الأميركي على طريق العودة إلى الاتفاق النووي وتخفيف التوتر مع إيران، يفترض أن يبدأ النظام الايراني بالخطوة الأولى التي تفرض عليه العودة إلى تطبيق الاتفاق النووي من دون أي تسويف أو تأخير. أي التراجع عن كل الخطوات التي قام بها في إطار تخفيض مستوى التزاماته وتعهداته التي جاءت في الاتفاق النووي. تلك المتعلّقة بآليات تخصيب اليورانيوم ومستوى التخصيب وحجم المواد النووية المخزّنة داخل إيران، ووضع حدّ نهائي لأيّ خطوة تصعيدية في هذا الإطار، بما يقطع الطريق على إمكانية لجوء ايران إلى أيّ تهديد مستقبلي يتعلق بالاتفاق، كما يحاول البرلمان الايراني مؤخرا في المصادقة على القراءة الثانية لمشروع قانون حمل اسم “استراتيجية إلغاء العقوبات”. وهو ينصّ على رفع مستوى التخصيب وحجم المخزون ووقف التعاون الطوعي في عمليات التفتيش المباغت.
قد يكون من الصعب على بايدن أو المفاوض الأميركي إجبار إيران على تفكيك برنامجها الصاروخي، خصوصاً أنّ المنطق الإيراني يقوم على السعي لخلق حالة من توازن الردع مع محيطها ومع التهديد الإسرائيلي وحتّى الأميركي. وعليه قد يكون الهدف من التفاوض حول هذا البرنامج إعادة هيكلة بنود قرار مجلس الأمن رقم 2231 حول الصناعات الصاروخية الايرانية وتمديد الفترة الزمنية المفروضة على الأسلحة الباليستية، والحصول من طهران على اتفاق تلتزم بموجبه عدم تطوير هذه الترسانة والوقوف عند المستوى الذي وصلته، مع تعهد ملزم بعدم نقل هذه التكنولوجيا إلى حلفائها في الإقليم بحيث لا تشكل تهديداً لأمن واستقرار هذه الدول.
في تشريح هذه الأبعاد والأطر أو المسارات التي حدّدها الرئيس الأميركي على طريق العودة إلى الاتفاق النووي وتخفيف التوتر مع إيران، يفترض أن يبدأ النظام الايراني بالخطوة الأولى التي تفرض عليه العودة إلى تطبيق الاتفاق النووي من دون أي تسويف أو تأخير
وهنا، فيما يتعلق بالنقطة الثالثة، فإنّ إدخال السعودية والإمارات إلى مجموعة 5+1 التي تحدث عنها بايدن، يفترض أن يكون المطلب العربي منذ اللقاء الذي عقد بتاريخ الأول من تشرين الأول 2009 في جنيف بين مفوض السياسات الخارحية للاتحاد الاوروبي وبين مجموعة 5+1 وبين الفريق الإيراني، المؤلّف من كبير المفاوضين والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي. وقد شهد هذا الاجتماع المشاركة الأولى والعلنية لمندوب الإدارة الامريكية وليم برنز. وهو مطلب يكشف مدى القلق الايراني من حصوله، ويوضح بشكل جليّ الأهداف الكامنة وراء الحراك الذي قاده وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف عام 2019 وطرح مشروع “التضامن الاقليمي” ومن ثم “تحالف هرمز”، كمحاولة إيرانية لقطع الطريق على هذا المسار، ومحاولة لأخذ المبادرة في الانفتاح على المحيط وطمأنته بعيداً عن شراكته في مجموعة التفاوض الدولية، وهو مسعى ينطلق من نظرة إيرانية استعلائية تجاه الشركاء الاقليميين، ورغبتها في التوصل إلى تفاهمات معهم بعيداً عن مسارات تفاوضها مع القوى الدولية. بما يضمن لها تفوّقاً على هذه الدول باعتبارها القوة القادرة على مخاطبة المجتمع الدولي بالاعتماد على قدراتها الذاتية من دون الاستعانة بأي طرف لفرض هذه الشراكة. ومن منطلق رفضها أن تُفرَض جهاتٌ عليها في الإقليم، قد تتحوّل في المستقبل إلى شركاء في تقاسم النفوذ معها.
إقرأ أيضاً: إيران: الاغتيال النووي زاد الانقسام حول التفاوض مع واشنطن
التوجه الجديد لبايدن نحو إشراك هذه الدول العربية في المفاوضات النووية وغير النووية التي يرغب في إجرائها مع طهران، قد تكون منطلقة من مسلمات غابت عن المفاوض الأميركي في المرحلة السابقة. وهذا يعني أنّ بايدن يريد لأيّ تفاهم أو اتفاق أن يكون ثابتاً ودائماً، وألا يغفل هواجس وقلق كلّ الأطراف المعنية بالإقليم والمحيط الإيراني. وهذا الأمر قد يفرض على طهران التفتيش عن آليات “ربح – ربح” مع هذه الدول في الملفات العالقة. خصوصاً في ملف الأزمة اليمنية والدفع باتجاه فتح مسار الحلّ السياسي لها بما يؤدي إلى وقف الحرب في هذا البلد من خلال ممارسة الضغط على الحليف الحوثي للاستجابة الى المبادرات الدولية والاقليمية. بالإضافة إلى الاتفاق مع واشنطن على إعادة ترسم حدود الحصص بينهما على الساحة العراقية بما يضمن المصالح الأمبركية في هذا البلد حتّى لو لجأت واشنطن لاحقاً إلى سحب قواتها العسكرية منه. أي ألا يتحول قرار الانسحاب إلى انتصار ايراني على حساب المصالح الأميركية. ومنها أيضاً حدود الدور الإيراني على الساحة السورية والحد من التهديد الذي يشكله هذا الوجود للأمن الاسرائيلي. في حين تبدو الساحة اللبنانية وموقف الإدارة الأمريكية من حزب الله، الحليف الأوّل لإيران، أكثر تعقيداً. ولا يقتصر هذا الموضوع على إخراج أو تحجيم تأثير الحزب على الصيغة اللبنانية، بل يرتبط أيضاً بجميع النقاط العالقة بين واشنطن وطهران على امتداد الاقليم من اليمن مروراً بالعراق وسوريا وصولا إلى فلسطين.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان الرئيس الأميركي الجديد قادراً على وضع هذه الشروط ما لم يكن الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب قد أقدم على الانسحاب من الاتفاق وكشف عن الهواجس الاستراتيجية لواشنطن وحلفائها، أم أنّه كان سيستمرً في الالتزام بالاتفاق من دون أيّ تعديل؟ وهل اغتالت تل ابيب إمكانية توصل إدارة بايدن إلى تفاهم جديد مع طهران باغتيالها محسن فخري زاده؟