يمكن القول إنّ العالم بأجمعه والسياسات الدولية دخلت في مرحلة اللعب في منطقة الفراغ أو الوقت المستقطع بانتظار النتائج الحاسمة التي ستسفر عنها الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّرة في الثالث من تشرين الثاني 2020؟ وهل ستعيد هذه الانتخابات الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما يعنيه ذلك من استمرار السياسات التي اعتمدتها إدارته في السنوات الأربع الماضية؟ وما إمكانية أن تأخذ شكلاً أكثر حدّة في حسم الملفات الدولية التي فتحها أو أعاد فتحها مع فريقه وخلقت حالة من الإرباك لدى عواصم القرار الدولية وحتى في الدول التي تتأثر بهذه السياسة وتشملها؟ أم أنّ هذه الانتخابات ستفتح الطريق أمام غريمه الديمقراطي جو بايدن باحتلال المكتب البيضاوي؟ وكم يمكن أن يساهم ذلك في عودة الكثير من الأمور إلى مسارات سابقة، بما يعني القفز عن المرحلة التي أنتجتها إدارة ترامب في البيت الأبيض.
إقرأ أيضاً: بين واشنطن وطهران.. هل ينجح بدر البوسعيدي بتمرير فترة الانتخابات الأميركية بسلام؟
وإذا ما كانت العديد من المسارات السياسية على المستوى الدولي معلّقة أو معطّلة بانتظار معرفة هوية النزيل في البيت الأبيض، فإن الساحة الإيرانية في المقابل تعيش حالة من التجاذب الشديد باتجاهين. الأول يدور حول آلية التعامل والتعاطي مع الإدارة الأميركية في الفترة المتبقّية قبل الانتخابات، والتردّد بين إمكانية تعزيز الخطوات الخجولة وغير المباشرة التي تأخذ طابع الرسائل الإيجابية الحذرة في التعامل مع الإدارة الأميركية الحالية، على اعتبار التقليل من الضغوط لإمكانية عودة ترامب إلى الرئاسة، وتالياً تمهيد الأرضية لمفاوضات علنية تحت سقف إيجاد المخارج لتخفيف التوتر وفتح الطريق أمام عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الذي يشكّل الحاضنة الدولية للتفاهمات. وهذه المرة بالتفاهم والتعاون مع عواصم الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) الشريكة في الاتفاق، مع دور فاعل للحليفين الروسي والصيني للمساعدة في تدوير الزوايا التي تصبّ أيضاً في صالحهما وتخدم مصالحهما الاستراتيجية. وهو الاتجاه الذي تعبّر عنه إلى حدّ كبير داخل النظام الإيراني حكومة الرئيس حسن روحاني ورئيس دبلوماسيته محمد جواد ظريف.
سيلجأ بايدن إلى اتخاذ خطوة العودة الى الاتفاق النووي من دون التخلّي عن سلّة العقوبات التي فرضها ترامب، ومحاولة استخدامها لابتزاز طهران في ملفات أخرى تتعلّق بالنفوذ الإقليمي والبرنامج الصاورخي وأمن الشرق الأوسط على حساب المصالح الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم
أما الاتجاه الثاني الذي يبدو أنه أكثر تشدّداً في التمسك بالموقف الرافض لمنح أيّ انتصار سياسي ولو بالحدّ الأدنى لترامب وإدارته. وهذا التوجّه ينطلق من قراءته الخاصة للساحة الأميركية وحجم الآثار السلبية التي تركتها الأزمات التي تواجهها إدارة ترامب إن كان على مستوى التعامل مع جائحة كورونا ومفاعليها على الاقتصاد الأميركي، أو على صعيد ارتفاع حدّة الأزمة التمييز العنصري الذي أشعل الشارع الأميركي في العديد من الولايات، وتسبّب في إحراج كبير لإدارة ترامب، أو على صعيد ارتفاع مستوى البطالة والتي تجاوز عدد العاطلين عن العمل رقم الثلاثين مليون شخص. فضلاً عن معركته الاقتصادية مع الصين وانعكاساتها على الاقتصادين الأميركي والعالمي. ويستعين هذا الاتجاه أيضاً في قراءة الأحداث التي تشهدها منطقة غرب آسيا من اشتباك بين واشنطن وحلفائها وطهران ومحورها. ويستند إلى أنّ قيادة النظام لا يمكن أن تقوم بأيّ خطوة قد تفهم في إطار التنازلات الإيرانية استجابة للضغوط الأميركية، وهي مواقف مبنية على انعدام الثقة الإيرانية بالإدارة الأميركية بعد أن حاول الطرفان إعادة بنائها بعد الاتفاق النووي الذي تبنّاه الرئيس السابق باراك أوباما. لذلك، فإن طهران لا تذهب إلى خيار المراهنة على تغيير في البيت الأبيض لصالح الديمقراطيين لاعتقادها بأنّ وصول بايدن إلى الرئاسة لا يعني انتهاء العقوبات والحصار، بل الانتقال الى مستوى جديد من التوتر، وسيلجأ بايدن إلى اتخاذ خطوة العودة الى الاتفاق النووي من دون التخلّي عن سلّة العقوبات التي فرضها ترامب، ومحاولة استخدامها لابتزاز طهران في ملفات أخرى تتعلّق بالنفوذ الإقليمي والبرنامج الصاورخي وأمن الشرق الأوسط على حساب المصالح الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم.
سيكون أمام إيران متّسع من الوقت للمفاضلة بين رئيس بتوجّهات تصعيدية أم رئيس بتوجّهات مرنة وبراغماتية
وعلى الرغم من تأكيد المرشد الأعلى للنظام خلال لقاء متلفز بتاريخ 23 آب 2020 مع حكومة روحاني على ضرورة تخلّي الإدارة الإيرانية عن انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لبناء الموقف الإيراني والعمل على تقليل الآثار السلبية للعقوبات، إلا أنّ هذا التنبيه يكشف مدى الرهانات الإيرانية على هذه الانتخابات ونتائجها. إلا أنّ المرشد ومنظومة السلطة والقرار في إيران وعلى الرغم من هذا الانتظار، تعتقد أنها تملك ورقة رابحة أيضاً قد تؤثر عليها نتائج الانتخابات الأميركية، وهي ترتبط بالاستحقاق الداخلي الإيراني في الانتخابات الرئاسية المقرّرة في 18 حزيران 2021 المقبل. فالفسحة الزمنية بين انتخابات واشنطن وتحديد الرئيس الجديد وبين الانتخابات الإيرانية التي تمتدّ لنحو 6 أشهر، ستسمح للقيادة الإيرانية برسم موقع الرئاسة وهندسته، وتحديد من هي الشخصية التي يفترض أن تصل إلى هذا الموقع. خصوصاً أنّها ستكون قادرة على تشخيص سلوك الرئيس ترامب في حال بقي في البيت الأبيض لدورة جديدة، حول ما يتعلّق بملفاتها، خصوصا العقوبات والاتفاق النووي والنفوذ الإقليمي والبرنامج الصاروخي وطبيعة الموقف المرتبط بآلية التعامل الاقتصادي الدولي مع طهران في ظلّ برنامج العقوبات الذي وضعته إدارة ترامب. وسيكون أمام إيران متّسع من الوقت للمفاضلة بين رئيس بتوجّهات تصعيدية أم رئيس بتوجّهات مرنة وبراغماتية. وحتماً الرئيسان سيكونان من داخل التيار المحافظ، الذي يتحفّز، على الرغم من الأزمات الداخلية التي يعانيها، للاتفاق على شخصية تستطيع تمثيل توجّهاته في المعركة الرئاسية. فحجم الإرباك الداخلي لهذا التيار لا يبدو قليلاً أو بسيطاً في وقت تبدو منظومة السلطة قد حسمت خياراتها بالعمل على استبعاد خيار وصول شخصية إصلاحية أو محسوبة على تيار الاعتدال الذي يمثّله روحاني إلى رئاسة السلطة التنفيذية. وذلك لاعتبارات متشعّبة ومتداخلة تحكمها. وهذا سيؤدي إلى الإبقاء على حالة المواجهة، أو الذهاب إلى خيار الحوار والتفاوض. وتحقيق إنجاز في خيار التفاوض سيسجّل لصالحها وفي مسار تعزيز سيطرتها وإمساكها بالنظام في المستقبل، بحيث يتيح لها إسكات جميع الأصوات المعارضة أو المنادية بالتغيير الداخلي.