تفوق نسبة الضحايا في غزة نسبتها في أوكرانيا 20 مرّة، ففي أوكرانيا قُتِل 10 آلاف مدني، وفي غزة قُتل 15 ألف مدني، وإذا ما قُمنا بحساب العدد كنسبة من السكان، فإنّ 15 ألفاً في غزة يعادل 300 ألف في أوكرانيا.
لقد استغرق وقوع هذا العدد من ضحايا غزة 45 يوماً، بينما استغرق العدد في أوكرانيا 500 يوم. وهذا واحدٌ من ملامح المأساة الكبرى في غزة. لقد أبتْ المآسي ألّا تأتي العالم العربي فرادى، فثمّة مأساة كبرى تجري وقائعها في السودان، تغشاها ظلماتٌ بعضها فوق بعض.
تفوق نسبة الضحايا في غزة نسبتها في أوكرانيا 20 مرّة، ففي أوكرانيا قُتِل 10 آلاف مدني، وفي غزة قُتل 15 ألف مدني، وإذا ما قُمنا بحساب العدد كنسبة من السكان، فإنّ 15 ألفاً في غزة يعادل 300 ألف في أوكرانيا
نبوءات النهاية
قبل ثلاثة قرون عاش في السودان “شيخ روحانيّ” كان له دور كبير في المجتمع السوداني هو الشيخ “فرح ود تكتوك”، ويقع ضريحه البسيط، والملوّن بالأبيض والأخضر، في ولاية سنار. ينسب عدد من السودانيين إلى الرجل نبوءة تتحدّث عن نهاية الخرطوم حرقاً أو غرقاً، وأنّها كما ستزدهر ستنتهي.
تقع منطقة سوبا في جنوب الخرطوم، وهي جزءٌ من تخوم مملكة سوبا الأثرية، وحسب الشيخ الروحاني فإنّ “الخرطوم تتعمّر إلى سوبا، ثمّ تتفكّك طوبة طوبة”، فكما سيرتفع بناؤها سينهار. وبعد أن يكتمل عمرانها ستتلاشى!
لا صحّة لمثل هذه النبوءات أيّاً كان صاحبها، وهناك من المثقّفين من ينكر نسبتها إلى الشيخ المذكور، ذلك أنّ الخرطوم لم تكن عاصمة وقت حياته، ولم تكن مدينة كبرى لتنصرف إليها النبوءات، بل إنّها أصبحت المدينة الأكثر ازدهاراً بعد رحيله بعشرات السنين.
لكنّ ما حدث من حرب تصل الآن لشهرها الثامن، وما حدث من دمار وتخريب غير مسبوق، ومع توالي أعمدة الدخان ليل نهار في مناطق عديدة، أعاد تلك الأسطورة القديمة إلى الواجهة من جديد.
لا طعام ولا دواء في الخرطوم، بل الموت رصاصاً ومرضاً وجوعاً. ومع انتشار أوبئة الكوليرا وحمّى الضنك، لا أدوية ولا لقاحات في السودان، وفي الخرطوم وحدها تمّ نهب 95% من الصيدليات.
لم يصمد البشر ولا حتى الوحوش في تلك المحنة الجامعة، ففي حديقة الحيوان بالخرطوم تمدّدت نمور وأسود جوعاً وعطشاً، وقُتل بعضها بشظايا الحرب.
بعيداً عن الخرطوم ثمّة ما يبعث على الغثيان في قصص القتل والاغتصاب في دارفور، والاتّهامات الأممية لقوات الدعم السريع بارتكابها. وعند عبور الحدود غرباً، يجد المرء تكملة للمأساة، إذ يعيش قرابة مليون ونصف مليون سوداني من اللاجئين في تشاد، وحسب برنامج الغذاء العالمي فإنّ أناساً عديدين يعيشون على وجبة واحدة يومياً، وبعد شهر واحد، وفي بدايات 2024، سوف تنتهي المساعدات تماماً، وربّما لا يجد هؤلاء جميعاً وجبةً واحدة!
في العهد الإخواني أسّست القبائل العربية، بدعم البشير، ميليشيا الجنجويد التي صارت قوات الدعم السريع، ويتّهم العربُ المساليتَ بتأسيس ميليشيا تدعى “كولومبيا” لاستخدام العنف ضدّ العرب
المزارعين في وجه الرعاة
في السودان 2023 جرى قتل 10 آلاف شخص، وإغلاق 10 آلاف مدرسة. أصبح 7 ملايين طفل بلا مدارس، و7 ملايين إنسان بلا منازل. ولم تعد الأنباء تخرج عن القصف المتبادل بالمدفعية بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم ودارفور وكردفان.
في دارفور تتعقّد الأزمة بسبب التاريخ والجغرافيا. على نحو عامّ ينقسم المجتمع الدارفوريّ إلى العرب والأفارقة، وتعدّ “المساليت” أكبر القبائل الإفريقية.
أغلب المساليت (الأفارقة السودانيين) من المزارعين، وأغلب العرب السودانيين من الرّعاة ومربّي الماشية. وبينما يرى المزارعون أنّهم أصحاب الأرض الأصليين، وأنّ الرّعاة وافدون جدد، يصطدم الطرفان باستمرار بفعل المصالح المتعارضة والمتشابكة بين الطرفين على الأرض والعشب والكلأ.
في العهد الإخواني أسّست القبائل العربية، بدعم البشير، ميليشيا الجنجويد التي صارت قوات الدعم السريع، ويتّهم العربُ “المساليتَ” بتأسيس ميليشيا تدعى “كولومبيا” لاستخدام العنف ضدّ العرب.
في حرب الجيش والدعم السريع في 2023، سيطرت قوات الدعم السريع على مواقع الجيش في غرب دارفور. وحسب الأمم المتحدة فقد ارتُكبت جرائم إبادة جماعية ضدّ “المساليت”، كما أنّه برعايتها لجرائم الاغتصاب تكون قد ارتكبت جرائم حرب.
يقول المساليت إنّ عددهم 5 ملايين نسمة، ويقول آخرون إنّ عددهم لا يتجاوز 2 مليون نسمة، ويقولون أيضاً إنّهم يحقّ لهم الانفصال عن السودان بموجب معاهدة 1919 بين السلطان بحر الدين زعيم المساليت وبين فرنسا وبريطانيا.
من المفارقات أنّ الدعم السريع ربّما يريد انفصال دارفور ليحكمها بالتحالف مع القبائل العربية، بينما يسعى المساليت إلى حكمها في حال الانفصال.
في معارك دارفور 2023 قُتل أكثر من 2,000 شخص، وهرب عدد كبير من السكان، وفي حرب 2003، قبل عشرين عاماً، قُتل 300 ألف شخص بحسب الأمم المتحدة، ويخشى أهالي دارفور ألّا تكون هناك نهاية لحمّام الدم.
لم ييأس الإخوان من العودة إلى السلطة، ومنذ 2019 راحوا يعملون ضدّ البدائل المدنية جميعها، لأجل الوصول إلى الفراغ التنظيمي، فتكون تلك بداية العودة
قبل الحكم الإخواني في السودان لم تخرج مشكلات دارفور عن السيطرة، لكنّ حكم البشير أسّس للصراع بين المكوّنيْن السودانيَّين في دارفور: العرب والأفارقة. فكما قسّم الإخوان البلاد إلى دولتيْن في الشمال والجنوب، قاموا بتقسيمها إلى قوميّتيْن في دارفور، وإلى مجتمعيْن متصارعين، أحدهما ديني والآخر مدني، في ربوع السودان.
لقد كان حكم عمر البشير وجماعة الإخوان على مدى ثلاثين عاماً.. بمنزلة التقسيم الناعم للسودان.
البند السابع
لم ييأس الإخوان من العودة إلى السلطة، ومنذ 2019 راحوا يعملون ضدّ البدائل المدنية جميعها، لأجل الوصول إلى الفراغ التنظيمي، فتكون تلك بداية العودة.
تتّهم القوى السياسية المدنية جماعة الإخوان بدفع البلاد إلى الحرب، واستثمار الحرب للتحالف مع الجيش، وبعد الحرب ستكون الحاجة إلى الأمن أكبر من الحاجة إلى الديمقراطية، وهنا يبدأ الطريق.
يحاول الإخوان أن يشكّلوا ظهيراً شعبياً للجيش الذي خسر التحالف مع القوى المدنية، وخسر العمل مع حكومة حمدوك، لكنّ الجيش يؤكّد باستمرار أنّ التأثير الإخواني في أعماله ليس سوى دعاية مغرضة من الدعم السريع، الذي يريد أن يصوّر جرائمه كحرب ضدّ التطرّف الديني وفلول البشير.
يحاول الجيش أن يشكّل من المدنيين المصدومين من الدعم السريع، ومن الجماعات الصوفية ذات التأثير الواسع كالتيجانية والسمانيّة والقادرية، ومن النسيج القبلي المتنوّع، تأسيس ظهير مجتمعي في إطار حسم الحرب ضدّ الدعم السريع.
لا يبدو ذلك الحسم العسكري قريباً، لكنّ رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان أنهى، قبل أيام، وجود بعثة الأمم المتحدة بعد ثلاث سنوات ونصف من العمل، وعلى الرغم من تعيين الأمين العامّ للأمم المتحدة مبعوثاً جديداً للسودان هو الدبلوماسي الجزائري رمضان العمامرة، فإنّ مجلس السيادة يبدو غاضباً من الدور الأممي، ويراه تدويلاً وتعقيداً للأزمة.
وإذ يخشى السودانيون أن تصبح بلادهم تهديداً للأمن والسلم الدوليَّين، فيتمّ التدخّل العسكري الأممي طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك بعد فشل مهمة البعثة الأممية التي جاءت طبقاً للفصل السادس، فإنّ الفريق البرهان تحدّث أخيراً، بثقة أعلى ممّا سبق، وقال: “الجيش يقترب من الانتصار على الدعم السريع، وسنواصل القتال حتى النفس الأخير، ولن تنتهي المعركة إلا بالقضاء على المرتزقة، وتحرير كلّ شبر سيطر عليه المتمرّدون”.
إقرأ أيضاً: حرب غزّة.. تحدّث الأزهر فاختفت جماعات الإسلام السياسيّ
طريق الماضي
بينما كانت الحرب الأهلية تشتدّ في السودان، رحل المطرب السوداني الكبير: محمد الأمين، وهو واحدٌ من أساطين الغناء في السودان والعالم العربي، ولا يزال دوره في تطوير الموسيقى السودانية، بتحدّي السلّم الخماسي وإدخال السلّم السباعي، دوراً رائداً وحاضراً.
كان يجب أن يوارى الراحل الكبير في الثرى في السودان، لكنّ الحرب حالت دون نقل جثمانه من الولايات المتحدة إلى بلاده، فدُفن في فرجينيا.
تأثّر محمد الأمين بأمّ كلثوم وعبد الوهاب، وغنّى لنزار قبّاني. لكنّ عنوان واحدة من أغانيه مع فضل الله محمد، تمثّل تعبيراً دقيقاً عمّا يحدث في السودان الآن. إنّها أغنية: “طريق الماضي”.
لا يزال السودان يمضي إلى الوراء بخطى متسارعة، ويخاصم العصر بلهاث لا ينقطع. ولا تزال نخبته السياسية والعسكرية عاجزة عن اقتلاع بلادها من الأراضي السياسية القاحلة، والانطلاق بها نحو الغد اللائق ببلد عريق، يمتدّ على مساحة تفوق مساحة بلجيكا 60 مرّة، ويضمّ في جنباته 50 مليوناً من السكان.. يتطلّعون إلى العمل والأمل.
لقد حان الوقت لكي يغادر السودان “طريق الماضي”.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة، والأمين العامّ لاتّحاد كتّاب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@