بسبب سماكة في زجاج نظّارتيه، تبدو عيناه مضخّمتين. ننظر إليهما من خلال الزجاج فنراهما أكبر، كما لو أنّه كان يلبس النظّارتين السميكتين، لكي ننظر من خلالهما نحوه، وليس العكس. كان يضعهما لنا، لكي نرى إلى عينه أوضح. لكي نعبر من خلالهما إلى أفقه العميق في الحدقتين. وقد أغمضهما باكراً. أغلقهما على حياة قصيرة لم تسمح له بأن يشيخ، أو ربما لم يسمح لها أن تعجزه، فأقفل عليها جفنيه.
هل أغمضهما وهو يضع النظّارتين؟ أفكّر وهو يخطر على بالي، بعد قراءة ما كتبته ابنته بادية على فايسبوك عن ذكرياتها معه في رمضان: أين هما النظّارتان الآن؟ هل لا تزالان محفوظتين في مكان ما؟ وماذا لو جرّب واحدنا أن يضعهما وينظر من خلالهما، هل يرى ما كان يراه السيد هاني فحص؟
إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ حسن خالد (2/2): الشخصية والرسالة والخير العام
على الغالب، لا. فالسيد السمح الإشكالي، ما كان يرى بعينيه فقط. والرؤية لديه نفرية (نسبة إلى محمد بن عبد الجبار النفري)، معتمدة على البصيرة لا البصر، وهي ظلّت كما عيناه، في اتّساع مطّرد، ومع ذلك ظلّت العبارة لديه عصيّة على الضيق، وبقيت مقرونة غالباً بعبرة عابرة ببطء. فهو كما قال يوماً في رثاء صديقه بسام حجار، “بطيء في الكتابة، سريع في الموت”. وهو ما كان يحتاج إلى نظارتين لتتّسع الرؤية لديه، بل كان يحتاجهما فقط ليقرأ. وما قرأه هذا النَهِمُ إلى المعرفة في حياته، أتعب عينيه، وسمّك الزجاج الذي يغطيهما، ووسّع بصيرته مع تراجع البصر.
لقد أعمل عينيه في رؤية التناقضات وقراءتها وقطفَ من الحدائق والحواكير والمروج السياسية والدينية والثقافية ورداً وشوكاً وأعشاباً برية، بعضها مزهر، وبعضها يابس، بعضها له رائحة، وبعضها الآخر يسبّب لك حساسية إذا لمسته أو شممته أو اقتربت منه. باقته المعرفية غريبة لكنّها ملفتة. وسخاؤه في الكتابة أشبه بالربيع بعد شتاء قاس.
أتذكر جيداً حينما طلبتُ إليه ذات يوم من العام 2006 كتابة زاوية لملحق “شباب” في جريدة “المستقبل”، تحت ترويسة “روح الشباب”، زارني في المكتب، بعدما مرّ على المرحوم نصير الأسعد، وفي يده باقة من المقالات تزيد على عشرة، من دون مبالغة. وضعها أمامي كمن يبيع الورد. قال: “لم أعرف ما الذي أكتبه عن شبابي فكتبت الكثير. هذه مواد عديدة، اختر واحدة وانشرها”. وتركها عندي، وقرأتُها بنهم كلها، ونشرت واحدة عن رغبته القديمة في أن يصير مصمّماً للأزياء. وأندم أيّما ندم أنّني أضعتُ النسخ المكتوبة بخطّ يده لباقي المقالات التي خصّني بها عن شبابه. أضعتها لأنّه أشعرني بأنّ السبيل إليه وإلى ذكرياته سهل، وبأنّ الشيخوخة والموت بعيدان.
هو في السياسة الفتحاوي المعجب بأبو عمّار والمفتون بالخميني وتجربته وذكائه وقلّده فقهياً حتّى مماته
هذه الغزارة في الكتابة، إن دلّت على شيء، فتدلّ على فيض بالتجارب والقراءات والعلاقات وسعة الأفق و”السماحة” بمعناها الشاسع الرحب التسامحي وليس بمعناها الديني السلطوي، هو الذي كان يستمع إلى فيروز ومحمد عبد الوهاب، ويغنّي في شهر الصيام “رمضان جانا” لمحمد عبد المطلب (كما ذكرت كريمته بادية).
وهو في السياسة الفتحاوي المعجب بأبو عمّار والمفتون بالخميني وتجربته وذكائه وقلّده فقهياً حتّى مماته (عاد وقلّد السيستاني بعد المنتظري لأنّه لا يقلّد ميتاً)، وهو الذي عارض إيران الخامنئية في لبنان في مراحل متقدمة، وهو الذي كان جزءاً من حملة “ساتشي أند ساتشي” الإعلانية للتسويق لـ14 آذار، وهو النقدي الذي قال إن قيادات 14 آذار “انفعاليون أكثر منهم فاعلين، وكسولون”، وهو المعجب بالبعد التنظيمي لقوى الثامن من آذار لأنّهم “ينظّمون خبثهم وتحالفاتهم وانقلاباتهم تنازلاتهم”. ألا تدلّ هذه القراءة للفريقين، مع ما وصلنا إليه اليوم، على بُعد نظر؟
ليس بسبب النظارتين. لقد تركهما هنا، في مكان ما، في دُرج ما، على منضدة ما. وأطفأ عينيه ونام. لكنّه ترك على رفوف مكتبات كثيرة، وفي أرشيف صحف معظمها أقفل على العتمة، عيوناً كثيرة مضيئة، تتّسع معها الرؤية… والعبارة.