مهما فعلت إسرائيل، فهي انهزمت. مهما قتلت وغاصت في الدم الفلسطيني، فقد أثبت الفلسطينيون، بعد 75 عاماً من المجازر والقتل والتهجير، أنّهم يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والانتصار.
الصور تاريخية. المَشاهد صادِمة. الإصرار مُدهِش. هجوم برّي وبحريّ وجوّي. استخدم المقاومون هواء تشرين في طائراتهم الشراعية، شبه البدائية. واستخدموا طائراتٍ مسيّرة باتت بمتناول كلّ مصوّر وهاوٍ في أنحاء الكوكب. واستخدموا درّاجات نارية لا تكلّف أكثر من ثمنها البخس. واستخدموا أسلحة في متناول كلّ إنسان تقريباً، وصواريخ ليست على قدرٍ عالٍ من الدقّة أو القوّة. وتجاوزوا أنظمة الإنذار المبكّر وضلّلوا أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية، وأخرجوا مئات آلاف الكاميرات من المعادلة.
سلاحهم الأقوى كان هو الإصرار، والحقّ التاريخي في أرضهم. لا يمكن مناقشة الفلسطينيين في أنّ إسرائيل تستوطن أرضهم. حتّى الحدود التي اصطنعها الغرب منذ عام 1948 لم تحترمها إسرائيل، ولا حتّى حدود ما احتلّته في 1967. لم تحترم حتّى الضفّة الغربية وكان رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو يعمل على ضمّ معظم الضفّة إلى حربه الاستيطانية على الفلسطينيين وحاضرهم ومستقبلهم وأولادهم.
على الإسرائيليين أن يتعلّموا من “نكسة 2023″، وأن يراجعوا التاريخ. فلا هتلر انتصر ولا هولوكوسته صمدت، ولا هم سينتصرون بالدم والحديد والنار
إنّها النكسة الإسرائيلية. تماماً كما كانت نكسة العرب في 1967. يومها قال نزار قباني جملته الشهيرة: “لم يدخل اليهود من حدودنا، وإنّما تسرّبوا كالنمل من عيوبنا”.
بانتظار أن يردّد شاعر إسرائيلي هذه الجملة باللغة اليهودية، وفي قصيدة نقد ذاتي تفتح باب المستقبل للمنطقة، ليعرف الإسرائيليون لماذا خسروا في 7 “أكتوبر” 2023.
أسباب الهزيمة الإسرائيليّة
حتّى كتابة هذه السطور زاد الرقم عن ألفَي جريح ويقترب من ألف قتيل. وبعض الأخبار تتحدّث عن مئات الأسرى الذين ابتلعهم قطاع غزّة.
وإسرائيل المهزومة هنا وصلت إلى هزيمتها بأقدامها: بالعجرفة والتطرّف وإرهاب الدولة. لم تسعفها تحالفاتها واتفاقاتها، ولا تفوّقها التكنولوجي، ولا وقوف “الغرب” وراءها، باعتبارها واحة متقدّمة تمثّل “التقدّم” الغربي في المشرق “المتخلّف” وغير الديمقراطي.
فقد مدّ العرب أيديهم لإسرائيل، تطبيعاً وتفاوضاً، من الخليج إلى ليبيا، مروراً بالمغرب واتفاقية النفط البحري مع لبنان و”الهدنة” التاريخية مع آل الأسد في سوريا… فكيف ردّت إسرائيل؟ قطعت الأيدي الممدودة، وأرادت المزيد، المزيد من الدماء والمزيد من الأراضي والمزيد من إهدار كرامات أهل الأرض وحقوقهم.
كان ردّ إسرائيل بانتخاب بنيامين نتانياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الثلاثي الأكثر تطرّفاً ودمويّةً في تاريخ هذه الدولة الاستيطانية التوسّعية. ثلاثي يريد ضمّ ما تبقّى من أراضي فلسطينية، وقتل من يجرؤ على التفكير بالمقاومة، وتهجير من تبقّى في أراضي الضفّة الغربية وغزّة. هكذا وبفخر ما بعده فخر.
حتّى رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن اختلف مع حكومتها المتطرّفة وابتعد عنها وأذلّ نتانياهو برفض استقباله، في سابقة تاريخية.
وصل الإسرائيليون إلى حيث ظنّوا أنّهم فعلاً شعب الله المختار، وأنّهم فعلاً لا يُقهرون، وأنّهم فعلاً فوق كلّ محاسبة. كان مُدهشاً هذا التزاوج الهجين بين التطوّر التكنولوجي الهائل، الذي تجاوز به الإسرائيليون دولاً أوروبية، وبين التخلّف الديني والتطرّف الأعمى. وكان أكثر غرابةً منه تراخي الغرب مع “فكرة” إسرائيل الحديثة، التي لم تقتنع بعد أنّها يمكن أن تكون دولة عاديّة وأن تلتزم بالقوانين والأخلاق والمواثيق الدولية. “الدلال” الغربي جعلها تجنح نحو الدم والقضم والتوسّع والتكبّر والتشاوف.
القادة الإسرائيليون والجنرالات الدمويون لا تحاسبهم محاكم دولية ولا قانون دولي ولا حتّى هناك محاسبة سياسية، داخل إسرائيل أو خارجها، مهما فعلوا. طغوا وتجبّروا واستكبروا، حتّى خرج عليهم ألف مقاتل فلسطيني، متسلّحين بما تيسّر، ليهزموا واحدة من أقوى الترسانات العسكرية في العالم.
تعلّم العرب من “نكسة 1967” وأعدّوا جيوشهم وعبروا قناة السويس في 1973، لأنّ الحقّ كان معهم، وكذلك الجغرافيا والتاريخ والعدد والمدد. وتعلّم اللبنانيون منذ الأربعينات وانتصروا في العام 2000
مهما قيل في أسباب الهزيمة الإسرائيلية، فإنّ السبب الأساسي هو أنّها دولة معتدية، لا تقيم وزناً للقوانين الدولية ولا للمواثيق والأعراف العسكرية والأمنيّة. دولة بلا ضوابط، لا أخلاقية ولا سياسية. ومنطق التاريخ أنّ من يملك الحقّ سينتصر. هذا ليس إنشاءً ولا عواطف، هذه حقيقة عمرها من عمر البشريّة.
وإسرائيل هذه انهزمت كثيراً من قبل: في “العبور” عام 1973، وفي بيروت عام 1982، وفي جنوب لبنان عام 2000، واليوم تنهزم داخل فلسطين في 2023.
أين الجيش؟ وأين الموساد؟
راح الإسرائيليون يتساءلون على مواقع التواصل الاجتماعي: أين سلاح الجوّ؟ أين الدبّابات؟ أين الاستخبارات؟ أين الموساد؟ أين الجيش؟
بالدرّاجات النارية والطائرات الشراعية والأسلحة الخفيفة، اجتاح ألف فلسطيني غلاف قطاع غزّة، واحتلّوا 7 مستوطنات وأسروا قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الجنرال نمرود ألوني. وكم هو معبّر اسمه: “نمرود” و”Alone”، تماماً كما هو حال إسرائيل، لولا اضطرار بايدن، بعد ساعات طويلة من بدء الاجتياح الفلسطيني، إلى إعلان دعمها. كذلك قتلوا وأسروا ضبّاطاً كباراً، أبرزهم الجنرال يوناتان شتاينبرغ قائد لواء “ناحل”، لواء المشاة الذي تشكّل خلال اجتياح بيروت في عام 1982، وقتله الفلسطينيون خلال اجتياح المستوطنات في 2023.
بدت إسرائيل كـ”طفل غربي مدلّل” ضربه الطفل الفلسطيني اليتيم، فاستقدم والده الجبّار، بحاملة الطائرات والمساعدات العسكرية والدعم السياسي من أكبر دول أوروبا، بينها بريطانيا وألمانيا… لكنّ الطفل المدلّل في الحكايات معروف أنّه في النهاية سـ”يأكل الأتلة”.
هي الصدفة، أو هو انتقام التاريخ ممّن جاؤوا إلى فلسطين ضحايا أفران الغاز الهتلريّة في أربعينيات القرن الماضي، وقرّروا أن ينتقموا وأن يصنعوا الهولوكوست الجديد، بأن يحرقوا الفلسطينيين بالمجازر والقتل والتهجير وأفران “الديمقراطية” الإسرائيلية ونظرية “التفوّق اليهودي” على العرب و”شعب الله المختار”، المنسوخة نسخاً عن النازية التي كانوا ضحايها.
الضحيّة باتت هي الجلّاد، و75 عاماً لم تكفِ هذه الدولة كي توقف انتقامها ممّن لا يد لهم في الهولوكوست الهتلريّ الأصليّ.
حتّى مارتن إنديك، المبعوث الخاصّ للرئيسين الأميركيين باراك أوباما وبيل كلينتون، وسفير أميركا لدى إسرائيل لسنوات طويلة، خلص إلى أنّ سبب هزيمة 1973 وهزيمة 2023 هو نفسه: “الغطرسة، واعتقاد أنّهم لا يُهزَمون، وأنّهم لم يستمعوا لمن قال لهم إنّ الأمور تتجه إلى الانفجار” بسبب الظلم والقهر. (مقابلة مع مجلة “فوريز أفيرز”، 7 تشرين الأوّل 2023).
حتّى الكاتب الصهيوني جدعون ليفي، كتب في “هآرتس”: “أثبت بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين أنه من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، دون دفع ثمن باهظ”.
مهما فعلت إسرائيل، فهي انهزمت. مهما قتلت وغاصت في الدم الفلسطيني، فقد أثبت الفلسطينيون، بعد 75 عاماً من المجازر والقتل والتهجير، أنّهم يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والانتصار
أسباب الهزيمة: الأخلاق
اليوم تنهزم إسرائيل. وأيّاً تكُن نتيجة هذه الحرب، الدرس التاريخي واضح: “لن يهنأ الإسرائيليون يوماً في بيوتهم ما داموا يظلمون الشعب الفلسطيني”. هناك حلّ وحيد: ذبح ملايين الفلسطينيين في لحظة واحدة. غير هذا لا حلّ إلا بإعطائهم حقوقهم.
أما المنتصرون منذ ليل السبت، ومهما قتل الإسرائيليون وفعلوا في غزّة، فهم كثر:
– أوّلهم الفلسطينيون وعدالة التاريخ.
– ثانيهم إيران، التي أدارت ظهرها للحرب على العرب، وتحاول صناعة صورة “الحرب على إسرائيل”. تلك الحكاية التي سقطت حين دمّرت عواصم عربية، من صنعاء إلى بغداد ودمشق وبيروت…
إقرأ أيضاً: قراءة أوّليّة.. لأكتوبر غزّة!
– وثالثهم معسكر السلام في إسرائيل، الذي بات في إمكانه الخروج وإعلان أنّ أكثر القادة تطرّفاً سقطوا أمام “هدايا” التطبيع، وأن لا طريق للسلام إلا بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم.
تعلّم العرب من “نكسة 1967” وأعدّوا جيوشهم وعبروا قناة السويس في 1973، لأنّ الحقّ كان معهم، وكذلك الجغرافيا والتاريخ والعدد والمدد. وتعلّم اللبنانيون منذ الأربعينات وانتصروا في العام 2000.
على الإسرائيليين أن يتعلّموا من “نكسة 2023″، وأن يراجعوا التاريخ. فلا هتلر انتصر ولا هولوكوسته صمدت، ولا هم سينتصرون بالدم والحديد والنار.
الدرس الأهم لن يكون عسكرياً ولا سياسياً في نهاية هذه الحرب، بل هو درس أخلاقي أوّلاً، لكلّ “السيستام” الدولي، من الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن والاتفاقات والمفاوضات والدول الراعية والوسيطة، بأنّ خلط الظلم بالقهر والقتل، لن يؤدّي إلى استسلام المظلوم، بل إلى الانفجار، وإلى هزيمة المعتدي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@