“موقف إيران من حقل الدرّة هو بالون الاختبار لحسن نواياها حيال معالجة أزمات المنطقة، وهو المقياس والمعيار لمدى استعدادها للتهدئة والتسويات الإقليمية مع جيرانها”.
هكذا تفهم الرياض بعض مظاهر التصعيد في المواقف التي صدرت في الآونة الأخيرة من بعض القوى الحليفة لإيران ضدّ المملكة، إمّا تصريحاً أو تلميحاً، حسبما ينقل عنها بعض العارفين بموقفها والمقرّبين من صانعي سياساتها. وحقل الدرّة الغازيّ، الذي تدّعي طهران أنّ لها حصة فيه بينما تجزم السعودية والكويت أنّهما “وحدهما” تتقاسمان ملكيّته، بات مؤشّراً إلى مدى استعداد طهران للإقلاع عن افتعال المشاكل مع جيرانها.
“موقف إيران من حقل الدرّة هو بالون الاختبار لحسن نواياها حيال معالجة أزمات المنطقة، وهو المقياس والمعيار لمدى استعدادها للتهدئة والتسويات الإقليمية مع جيرانها”
لا أهميّة لحملات الأذرع
يتحدّث بعض المقرّبين من الجانب السعودي بلهجة لا تُعير أهميّة لتصريحات كالتي صدرت في 12 آب عن زعيم “أنصار الله” عبد الملك الحوثي الذي هدّد السعودية بحديثه عن “ضرورة أن يدرك السعودي أنّ استمراره في تنفيذ الإملاءات الأميركية والبريطانية ستكون عواقبه وخيمة عليه، ولا يمكن أن يعيش في أمن ورفاهية وتحريك الاستثمارات في “نيوم” وغيرها ثمّ يتسبّب باستمرار الحصار والمعاناة والبؤس في واقع الشعب اليمني”. وحمّل المملكة مسؤولية إعادة إعمار اليمن.
قبل تصعيد الحوثي كانت وسائل إعلام موالية لمحور “الممانعة” قد سرّبت أنّ الرياض لم تنفّذ ما وعدت به لجهة فكّ الحصار عن اليمن ودفع رواتب الموظّفين اليمنيّين في مناطق سيطرة الحوثيين، بينما كانت الرياض أعلنت تخصيص مليار و200 مليون دولار للبنك المركزي اليمنيّ…
خرق كلام الحوثي الهدنة السياسية والعسكرية الهشّة أصلاً في اليمن. وسبقه حسن نصر الله في العودة إلى لغة ما قبل اتفاق بكين في 10 آذار الماضي بين السعودية وإيران، السابقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية، خلافاً لمناخ التهدئة على الصعيد الإقليمي. فالأمين العامّ للحزب استعاد خلال خطابه في ذكرى عاشوراء (27 تموز الماضي) الحديث عن “العدوان” في اليمن وعن “الاستبداد” في البحرين، و”محاصرة سوريا”، إضافة إلى تصعيده في اتّهام خصومه بالعمل مع أميركا وإسرائيل لتقويض نفوذه في لبنان.
حين يُسأل المقرّبون من الرياض عن أجواء التراجع في مناخ التهدئة الذي أعقب اتفاق بكين بدليل التصريحات المذكورة وغيرها يجيبون: “هؤلاء أذرع… والتمعّن في خطابات نصر الله يقود إلى الاستنتاج بأنّه يخاطب جمهوره والبيئة الحاضنة في أغلب الأحيان”.
أمن الممرّات “صار وراءنا”
التصعيد الكلامي والتعقيدات أمام الحلول المفترضة في اليمن بدت بالنسبة إلى المراقبين والمحلّلين أوراقَ قوّة تفاوضية تستبق زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للمملكة، وقد حملها معه أول من أمس إلى الرياض، حيث أعلن أنّ محادثاته مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن عبد الرحمن آل سعود كانت ناجحة، وأنّه جرى التطرّق إلى الملفّات الإقليمية.
إلا أنّ المهمّ بالنسبة إلى الجانب السعودي ترقُّب ما سينجم عن الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للمملكة، التي جاءت زيارة عبد اللهيان إلى الرياض للإعداد لها. فمحادثات الأخير تمهّد للعودة إلى مناخ التهدئة ولبحث الملفّات كافّة عند زيارة رئيسي. وترفد مصادر دبلوماسية ما يقوله المقرّبون من القيادة السعودية بالقول إنّ المحادثات مع الوزير الإيراني ليست هي الحاسمة، لكنّ “زيارة رئيسي هي المؤشّر”.
ماذا عن تهديد أمن الملاحة البحرية في خليج عُمان والبحر الأحمر عبر محاولات البحرية الإيرانية والحوثيين مصادرة ناقلات نفط وسفن وسعي طهران إلى إخراج أميركا من المنطقة؟ يعتبر المطّلعون على الموقف السعودي أنّ هذه المرحلة “صارت وراءنا مع انتشار الأسطول السادس في البحر”.
قبل تصعيد الحوثي كانت وسائل إعلام موالية لمحور “الممانعة” قد سرّبت أنّ الرياض لم تنفّذ ما وعدت به لجهة فكّ الحصار عن اليمن ودفع رواتب الموظّفين اليمنيّين في مناطق سيطرة الحوثيين، بينما كانت الرياض أعلنت تخصيص مليار و200 مليون دولار للبنك المركزي اليمنيّ
إلا أنّ ذلك لا يمنع الإشارة من قبل المقرّبين من الرياض إلى أنّها لم تتوانَ عن اتّخاذ مواقف صارمة إزاء بعض الممارسات، وآخرها ردّها على ما حصل في مخيّم عين الحلوة من صدام مسلّح كان هدفه إضعاف حركة “فتح” ونقل المرجعية الفلسطينية من منظمة التحرير إلى حركة “حماس”، عبر تغليب بعض المجموعات الإسلامية المتطرّفة على “فتح”. وهذه المجموعات تستظلّ بـ”حماس” الموالية لإيران. فالموقف السعودي الخليجي التحذيري للمواطنين الخليجيين من البقاء في لبنان أو من التجوّل فيه، هو ردّ مباشر على هذه المحاولة وتحذير من الإمعان فيها: “ولو نجحت تلك المحاولة لكان يعني ذلك أنّ على لبنان السلام”.
الدور الصينيّ والقراءة السعوديّة الهادئة
تردّدت أنباء خافتة في الأسبوعين الماضيين عن أنّ التحرّك الإيراني في اتجاه السعودية جاء نتيجة مراجعة الرياض للضامن الصيني في شأن بعض مظاهر التصعيد التي ظهرت في سلوك طهران وأذرعها، وأنّ القيادة الصينية بذلت جهداً لدى القيادة الإيرانية للعودة إلى أجواء التهدئة. ولا يؤكّد الطرفان هذه الأنباء أو ينفونها.
في كلّ الأحوال فإنّ للمطّلعين على الموقف السعودي قراءتهم الخاصة للمعطيات، المختلفة عمّا هو شائع، وتحليلهم لخلفيّات ووقائع العلاقة معها بعد اتفاق بكين كالآتي:
– أوّلاً: المنطقة ببساطة أمام مشروعين: الأوّل مشروع صناعة الحياة، والثاني مشروع صناعة الموت. السعودية تقود الأوّل وقطعت شوطاً في سياقه من خلال المشاريع الطموحة التي تقوم بها وتوفّر الرفاهية لشعبها ولا بدّ للمنطقة من أن تستفيد منها. أمّا الوضع في إيران فإنّ الشعب بات يعيش ضغوطاً غير مسبوقة جرّاء السياسات التي جرى اتّباعها في العقود السابقة، بحيث بات يتطلّع إلى التمثّل بما حقّقته المملكة من قفزات غير عادية في مسار تطوّر الدول. شعر الإيرانيون بأنّ العبث بأمن الدول انقلب عليهم بحيث يتمنّون بأن يكون لديهم محمد بن سلمان. والوضع في المنطقة لن يستقيم إلا بتغليب مشروع الحياة من أجل اللحاق بركب التطوّر.
التذمّر بلغ “حرس الثورة”
– ثانياً: إنّ التذمّر الشعبي في إيران انتقل منذ سنوات إلى صفوف “حرس الثورة” الإيراني، فبات بعض رموزه يتحدّثون عن آثار الدعم المالي الإيراني للميليشيات الموالية له في المنطقة، سواء الحوثيون في اليمن أو “الحشد الشعبي” في العراق أو الحزب في لبنان، على الأعباء الاقتصادية الإيرانية. وهذا التذمّر بلغ حدّ إباحة إيران لهذه الميليشيات أن تقوم بنشاطات غير مشروعة لرفع العبء عن الميزانية الإيرانية، ومن هذه النشاطات تهريب المخدّرات والسلاح وفرض الخُمس وعقد الصفقات التي استفاد منها أيضاً “الحرس” لسدّ العجز المالي لبعض إنفاقه. وفي اعتقاد المطّلعين على النظرة السعودية إلى العلاقة مع طهران أنّ الأخيرة قرأت جيّداً آثار السياسات السابقة على أوضاعها الداخلية وأنّ قيادتها باتت تريد الإفادة من المساعدة العربية. وفي ذلك إشارة إلى تكرار الحديث عن تفعيل الاتفاقات الاقتصادية القديمة بين البلدين وعن الاستثمارات السعودية المرتقبة في إيران.
“براغماتيّة” نصر الله وطلب عبد اللهيان
– ثالثاً: بعد اتفاق بكين في 10 آذار حرصت طهران على التهدئة نتيجة القناعة بالحاجة إلى اعتماد مسار آخر يجري تلمّس الطريق إلى سلوكه. يورد العارفون بالقراءة السعودية للتطوّرات مثالاً على ذلك ما أبلغ به الوزير عبد اللهيان حين زار بيروت أخيراً في 28 آذار الماضي حلفاء طهران، وخصوصاً الحزب، من أنّ القيادة الإيرانية لا تريد إغضاب السعودية في لبنان، ولذلك اتّسم الخطاب السياسي بالهدوء بعدها.
إقرأ أيضاً: مافيا إيطاليّة في بيروت: من يحميها؟
– رابعاً: إنّ نصر الله في مجالسه وفي بعض لقاءاته البعيدة من الأضواء “يُثني على نجاعة رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمستقبل العالمين العربي والإسلامي ونهجه القائم على التقريب بين الدول وإعطاء الشيعة حقوقهم، موحياً بكلامه بأنّه ينظر إلى قيادة عربية شابّة لها رؤية واعدة”.
في اعتقاد المطّلعين على القراءة السعودية أنّ الحزب أظهر براغماتية في هذه النظرة وبعض ممارساته في شأن الأزمة اللبنانية.