نصف قضاة لبنان خارج الخدمة

مدة القراءة 7 د


ثلاث أزمات تعصف بالجسم القضائي في لبنان. وهي أزمات وجودية لأنّها تهدّد بانهيار الهيكل على الجميع، بخاصة أنّ من بين 600 قاضٍ يشكلون الجسم القضائي هناك 323 قاضياً خارج الخدمة وفقاً للأسباب التالية:
1- قرار وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري بإحالة كلّ أعضاء نادي القضاة على هيئة التفتيش القضائي وعددهم 112 قاضياً.
2- اعتكاف 111 قاضياً عن العمل منذ بداية شهر أيلول.
3- استئذان 100 قاضٍ مجلس القضاء للسفر للعمل خارج لبنان.

من تشرشل إلى خوري
لا يمكن التطرّق إلى وضع القضاء في لبنان من دون أن يخطر في البال حكمة ونستون تشرشل الشهيرة: “إذا كان القضاء بخير يعني بريطانيا بخير”، لكن لا مجال للتشبيه بين الاثنين، فالقضاء اللبناني “ليس بخير” بشهادة أهله العاجزين عن التحرّر من “قيود سياسية” تكبّلهم وتُهيمن على قراراتهم وأحكامهم التي تصدر “باسم الشعب اللبناني”.
يكاد لا يمرّ يومٌ بلا حدث يُقلق العدالة وحرّاسها، لكنّ الأبرز وربّما الأخطر تمثّل بقرار وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري، الذي أحال فيه كلّ أعضاء نادي القضاة على هيئة التفتيش القضائي، والطلب من الأخيرة اتخاذ إجراءات عقابيّة رادعة بحقّهم، والمفارقة أنّ التفتيش لم يتأخّر في الاستجابة لطلب وزير العدل إذ استدعى الهيئة الإدارية للنادي المؤلّفة من ثمانية قضاة وأخضعهم للتحقيق، وعلم “أساس” أنّ الجلسة التي دامت ساعات طويلة تمحورت حول البيانات التي أصدرها نادي القضاة عند كلّ حدث أو تطوّر قضائي.
في حين لاذت وزارة العدل بالصمت، وغاب الوزير هنري خوري عن السمع، استغربت مصادر قضائية خطوة وزير العدل، معتبرة أنّ “هناك محاولة لإخضاع نادي القضاة ومنعه من تسليط الضوء على الأزمات التي يعاني منها الجسم القضائي”. واللافت أنّ قرار خوري يتعارض مع المساعي التي يبذلها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود لاحتواء التصعيد القضائي الأخير، ودعوته القضاة خلال اجتماع الجمعية العمومية الأخير إلى التريّث وعدم التصعيد، لأنّ الأمور تسير إلى حلحلة لكلّ ما يُقلق القضاة ماديّاً ومعنويّاً.

أكّدت المصادر أنّها “ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها استهداف النادي، فقد أُحيل رئيس النادي على التفتيش ثلاث مرّات، لكنّها المرّة الأولى التي يحيل فيها الوزير النادي بأكمله إلى التحقيق”

أكّدت المصادر أنّها “ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها استهداف النادي، فقد أُحيل رئيس النادي على التفتيش ثلاث مرّات، لكنّها المرّة الأولى التي يحيل فيها الوزير النادي بأكمله إلى التحقيق”.
كان نادي القضاة انتقد يوم الجمعة الماضي مذكّرة أصدرها الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف حبيب رزق الله قضت بانتداب القاضي وائل صادق لمركز قاضي التحقيق الأوّل في بيروت، مكان القضائي شربل أبو سمرا الذي يحال على التقاعد منتصف هذا الشهر، وانتداب القاضية زلفا الحسن رئيسة لمحكمة الجنايات في بيروت، خلفاً للقاضي سامي صدقي الذي يحال نهاية هذا الشهر على التقاعد أيضاً. وطلب النادي في بيانه أن “يحلّ القاضي مكان زميله وفقاً للدرجة والأكبر سنّاً عند شغور أيّ مركز قضائي”.
يراقب نادي القضاة، الذي يضمّ 112 قاضياً، تطوّرات ما يحصل أمام هيئة التفتيش. وأبدت المصادر خشيتها من أن تكون الغاية “إنهاء النادي” بدلاً من معالجة الأسباب التي دفعت أكثر من مئة قاضٍ إلى إعلان اعتكافهم منذ مطلع شهر أيلول الماضي تضامناً مع زملائهم في النادي.

الأشهر المقبلة.. حاسمة
لدى التجوّل في أروقة قصور العدل الحارّة ومكاتب قضاتها المظلمة، تشعر بالأزمة الحقيقية التي يعيشها القضاة، أزمة مستفحلة تدفع بالعشرات منهم إلى التفكير جدّياً في السفر للعمل في الخارج، فمنهم من قدّم استقالته بعدما فقد الأمل بتصحيح الوضع، وغيرهم يتريّث “مرغماً لا بطلاً”، لكنّ الأكيد أنّ الجميع توّاق إلى العيش بكرامة أينما حالفه الحظّ في بلاد الله الواسعة.
“الأشهر المقبلة ستكون حاسمة، وستُبيّن ما سيؤول إليه الوضع القضائي برمّته”. هكذا يوصّف مصدر قضائي الأمر لـ “أساس”. ويضيف: “ننتظر إيجاد حلّ جذري لمشكلة فاقمتها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي باتت تهدّد “العدلية”، خاصة إذا قرّر بعض القضاة المشهود بمهنيّتهم ونزاهتهم، حزم حقائبهم، تاركين وراءهم آلاف الملفّات المتراكمة، ناهيك عن الفراغ الذي سيُخلّفه وصول العديد من القضاة إلى سنّ التقاعد وعدم القدرة على تعيين قضاة بدلاء عنهم، في ظلّ الخلاف المستشري بين السلطتين السياسية والقضائية، وما التشكيلات القضائية الأخيرة التي لم تُبصر النور وبقيت عالقة في أدراج رئيس الجمهورية إلا دليل عمق أزمتهما”.

علم “أساس” أنّ عشرات القضاة قاموا بتقديم طلبات استيداع طمعاً “بالهجرة”، بعدما سئموا من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها القضاة

استقالات وطلبات استيداع
إزاء التخوّف ممّا ستؤول إليه الأمور مطلع العام المقبل، يقول المصدر عينه إنّ “الإحباط” أوصل 111 قاضياً إلى إعلان الاعتكاف منذ بداية شهر أيلول الماضي، في ظلّ عجز الدولة عن تغطية الاستشفاء والطبابة والتعليم للقضاة وأسرهم، ويشير إلى أنّ “الظروف غير اللائقة بالكرامة التي يشعرون ويعملون بها، هي التي دفعتهم إلى اتخاذ قرارات لم تكن في الحسبان”. ويضيف: “لسنا من محبّي التعطيل ولا حتى الرحيل، نحن حريصون على حقوق المتقاضين، لكنّ الظروف الضاغطة دفعت بالكثير منّا إلى تقديم سيره الذاتية إلى جامعات ومحاكم عربية ودولية والتقدّم بطلبات عمل من أجل الحصول على راتب مقبول يحاكي مقوّمات الحياة الكريمة وأساسياتها”.
علم “أساس” أنّ عشرات القضاة قاموا بتقديم طلبات استيداع طمعاً “بالهجرة”، بعدما سئموا من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها القضاة، وأفادت المعلومات أنّ “نحو 100 قاضٍ استأذنوا مجلس القضاء للعمل في الخارج مؤقّتاً”، لكنّ الخوف بدأ يتعاظم من احتمال ارتفاع العدد، وربّما الانتقال إلى مرحلة الاستقالات إذا بقيت الأمور مستعصية وعجزت الدولة عن إيجاد الحلول للأزمة.
لا يُحبّذ المصدر مقارنة حاله بحال رجال السياسة، فهؤلاء “وإن خسروا مثلهم مثل القضاة أكثر من تسعين في المئة من قيمة رواتبهم، إلا أنّهم بمعظمهم رجال أعمال ومستثمرون وأصحاب مصالح، والأزمة الاقتصادية وإن كان لها تأثيرها عليهم، فليس بالقدر الذي تأثّر به القضاة ماديّاً ومعنويّاً حتى إنّ متوسط الدخل الشهري للقاضي صار خمسمئة دولار”.
يُقدّر قضاة معتكفون الجهود التي يبذلها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود لحلّ أزمتهم، ويؤكّد هؤلاء أنّهم “لمسوا تفهّماً منه لأحقّية مطالبهم المعنوية والمادّية واللوجستية”.

إقرأ أيضاً: بدأ العدّ العكسيّ: حرب عون-باسيل بالسلاح الأبيض!

تداعيات خطيرة
يؤكّد مصدر آخر لـ “أساس” أنّ “القضاة تلقّوا وعداً بتغطية المساعدات التعليمية لمدّة خمسة أشهر، ويجري استدراج عروض من شركات التأمين لتغطية نفقات الاستشفاء الخاصة بالقضاة”، لكنّه لا يُخفي قلقه من أن تكون كلّ تلك الحلول مؤقّتة، فيما يحتاج الأمر إلى علاج جذري لإعادة الوضع كما كان عليه قبيل الأزمة. ويحذّر من أنّ انهيار “العدلية” له تداعيات خطيرة على الجميع، ولا بدّ من اجتراح الحلول السريعة حتى لا يتفاقم الوضع سوءاً، خاصة مع تدنّي عدد القضاة بسبب إحالة العشرات منهم على التقاعد واقتراب البعض الآخر من نهاية الخدمة واستقالة غيرهم وتقديم الكثيرين طلبات استيداع للعمل في الخارج وإقفال باب الامتحان من أجل اختيار قضاة جدد في معهد الدروس القضائية.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…