“لو كنّا نريد تغييراً ديموغرافياً كنا نستطيع أن نترك جبهة النصرة وداعش “تطحش” إلى هذه القرية وتلك القرية وغيرها وتهجّر وتقتل وتذبح، والناس لا ترجع أو تفكر بالعودة، ونهجم نحن فيما بعد ونحرّر هذه القرى”.
الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله (11 أيّار 2017).
بهذه العبارات الواضحة، مرّر نصرالله واحدة من أبرز استراتيجيات إيران في إدارة قضايا “الإرهاب”، ولو من باب النفي المؤكَّد بالواقع والوقائع. فمعظم المعاقل والمدن السنية في العراق وسوريا، جرى تدميرها بعد تمكين هذا التنظيم من دخولها، بدءاً من الاستيلاء الفضائحي على مدينة الموصل وتمكينه من نهب خزائن مالها وترسانتها من الأسلحة، وليس انتهاءً بتسهيل وصوله إلى جرود جبال لبنان الشرقية. وقبل “داعش” كانت هناك تجارب في لبنان بدأت مما سمّي عام 2000 بـ”أحداث الضنية” في الشمال مروراً بتنظيم “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد، وليس انتهاءً بمعارك عبرا في مدينة صيدا.
إقرأ أيضاً: عاجل: المطلوب شبكة إرهابية لداعش بطرابلس
مناسبةُ استذكار واستحضار هذا الموقف هي عودة نصرالله إلى الدندنة حول “إعادة إنتاج داعش” كما جاء في خطابه الأخير في 30 آب 2020، عندما قال: “إنّ هناك محاولة لإعادة إنتاج داعش في العراق وفي شرق الفرات، وعلى الأكثر في منطقة الجزيرة التي توصل للسخنة وتدمر”. وأضاف: “الجيش السوري وحلفاؤه يقاتلون هذه المجموعات التي يتمّ استيلادها من جديد. لكن لو تمكّن هؤلاء من الوصول مجدّداً إلى تدمر. فبالتأكيد، ستكون هذه الجرود واحدة من الأماكن التي يتطلّعون إليها مجدّداً. يجب أن نكون حذرين”.
أعاد نصرالله إنتاج كلّ منظومة التخويف واستحضار الدّور وتقديم “الخدمات” في الداخل اللبناني والخارج حيث يجري التفاوض بفرض الوقائع في الميدان وفي السياسة
ولم ينسَ نصرالله التذكير بما أسماه “عيد التحرير الثاني” أو ما يسمى عملية “فجر الجرود”، التي كبّل حزب الله الجيش اللبناني عن القيام بدوره ومنعه من الاحتفال الرسميّ للإعلان عن “الانتصار” فيها، وانتهت بخروج الدواعش من قتلة شهداء الجيش وقوى الأمن الداخلي بباصات “حزب الله” المكيّفة، وانضمام قسم منهم، أو عودته إلى جيش النظام السوري، وإصرار الحزب على إيصال البقية إلى مدينة الميادين في محافظة دير الزور، وانتقاده لملاحقة طائرات أميركية للقافلة التي أقلّتهم.
أعاد نصرالله إنتاج كلّ منظومة التخويف واستحضار الدّور وتقديم “الخدمات” في الداخل اللبناني والخارج حيث يجري التفاوض بفرض الوقائع في الميدان وفي السياسة. وقد أراد بخطابه هذا الردّ على كلّ من يريد أو يطرح الاقتراب من سلاحه، بأنّ “الإرهاب السنـّي” موجود ويتحرّك من جديد، وأنّ هذا السلاح أكثر من ضرورة لحماية لبنان ولتأكيد دوره الإقليمي في سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن.
لم يقدّم نصرالله معلومات أو معطيات مقنعة عن كيفية إعادة إنتاج هذه المجموعات، ولا من يقوم بهذا الدور أو الجهات الداعمة لها. بل كلّ ما قاله إنّها ستشكّل خطراً على حدود لبنان الشرقية، وهذا جوهر الرسالة. فتنظيم “داعش” استفاد من تسهيلات محور الممانعة، وعبر الصحارى والجبال بمواكب السلاح الثقيل بلا عوائق. كما سبق لتنظيم “فتح الإسلام” أن حظي بالتسهيلات نفسها، وبـ”الخطّ الأحمر” من نصرالله، يوم اعتبر أنّ دون هذا الخطّ “دخول مخيم نهر البارد”، قبل أن يسقط الخطّ تحت دعسات الجيش اللبناني. خطّ استمرّ حتى تمكّن التنظيم يومها من تجميع عناصره وقياداته في مخيم نهر البارد. إضافة إلى تجارب لا تُحصى من الخدمات المتبادلة التي يقوم بها نظام طهران لتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، خصوصاً بعد تصفية قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في شهر كانون الثاني 2020 ببغداد بواسطة صواريخ من طائرة أميركية مسيّرة.
مؤخراً، عادت ظاهرة تخويف السجناء السابقين أو الملاحقين في قضايا تتعلّق بالإرهاب، وإيهامهم بأنّهم مطلوبون وملاحقون وأنّه يتحتّم عليهم مغادرة أماكن سكنهم و”الهروب” حتى لا يتعرّضوا للاعتقال والتعذيب والسجن
لم يكد نصرالله ينهي كلامه عن إعادة إنتاج “داعش”، حتى بدأت الأجهزة الأمنية تعلن القبض على الشبكات الإرهابية في إطار ما تسمّيه “العمليات الاستباقية”، وهي عمليات بقدر ما هي ضرورية في العمل الأمني، بقدر ما تحتوي على مقدار كبير من الغموض والالتباس والهواجس من نتائجها. خصوصاً أنّ معظمها يأتي استجابة مباشرة لكلامٍ صادر عن قيادات “حزب الله”. تماماً كما تزامن توقيت كشف مخابرات الجيش عن “توقيف عناصر خلية إرهابية مرتبطة بتنظيم داعش” مع كلام نصرالله، والإعلان أنّها كانت بصدد تنفيذ أعمال أمنية في الداخل اللبناني”، وأنّ التحقيقات أظهرت أنّ أمير تلك الخلية هو “الإرهابي المتواري عن الأنظار خالد التلاوي الذي استخدمت سيارته من قبل منفّذي جريمة كفتون”.
في لبنان مسارٌ طويل من مراكمة الملفات المشبوهة والمركّبة المرتبطة بالتنظيمات الإرهابية. وهذا المسار يتدرّج من تهيئة البيئة المناسبة لإنتاج المجموعات الخارجة على المجتمع، وهو ما تبرع فيه أجهزة الدولة المحكومة بسلطة سياسية لم تكن يوماً بعيدة عن هيمنة “حزب الله”. وما ترسيخ الحرمان من التنمية والتعليم والصحة إلاّ مرتكزات لإبقاء المناخ السنّي مهيئاً لتفريخ ضحايا الإرهاب.
مؤخراً، عادت ظاهرة تخويف السجناء السابقين أو الملاحقين في قضايا تتعلّق بالإرهاب، وإيهامهم بأنّهم مطلوبون وملاحقون وأنّه يتحتّم عليهم مغادرة أماكن سكنهم و”الهروب” حتى لا يتعرّضوا للاعتقال والتعذيب والسجن، ولهم تجارب مريرة في هذا المجال. والهدف من عملية الترهيب هذه دفع أعداد من “الإسلاميين” إلى الفرار التدريجي نحو مناطق جبلية أو أحياء مهمّشة وتجميعهم فيها، تماماً كما حدث في ما يسمّى أحداث الضنية، حيث تعمل أدوات الممانعة على استقطابهم وتنظيمهم تحت مسمّيات جهادية لتكرّر بهم وصم المناطق ذات الغالبية السنيّة بالإرهاب، وتعرّضها للمزيد من النكبات، وهذا هو السيناريو المتوقّع الآن.
لا تنظر السلطة إلى سلاح “حزب الله” القاتل في خلدة، ولا إلى السلاح المغطّى في البقاع، بل تلاحق النيات وتعتمد الشبهات لسوق من تتناسب هوياتهم الدينية مع المشروع القديم الجديد (إنتاج التطرّف)، ليبقى المطلوب بعد إعلان نصرالله عن العروض الجديدة لـ”داعش” أن يستنفر الوعي السنّي ليقول لمن يروّج إنتاج هذا التنظيم: هذه بضاعتكم رُدّت إليكم.