ما الذي طرأ في إيران حتى “ترتكب” إعلاناً عن توجّهٍ لبدء أعمال التنقيب في حقل الدرّة الكويتي السعودي؟
ولئن تعتبر طهران أنّ ملكيّة الحقل متنازع عليها مع البلدين الجارين، فما الذي استدعى التهديد بالاعتداء على سيادة الحقل فيما لم تتوقّف الرياض والكويت عن توجيه الدعوة تلو الدعوة لطهران لترسيم الحدود بما يزيل الخلاف القديم بشأن الحقل؟
كان الرئيس التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، محسن خجسته مهر، قد أعلن الأسبوع الماضي أنّ “هناك استعداداً كاملاً لبدء الحفر في حقل الدرّة (“آرش” حسب التسمية الإيرانية) المشترك، وقد اعتمدنا موارد كبيرة لتنفيذ خطة تطوير هذا الحقل في مجلس إدارة شركة النفط الوطنية الإيرانية، وعندما تتهيّأ الظروف سنبدأ الحفر”.
يعود النزاع إلى ستّينيات القرن الماضي. تعتبر إيران أنّ لها حصّة في ملكيّة الحقل، فيما الكويت والسعودية تعتبرانه حقلاً مشترك الملكية بناء على خرائط تقوم على مقاييس ومعايير ووثائق. وسبق لمفاوضات أن قامت بين الكويت وطهران من دون التوصّل إلى اتفاق، وهو ما أعاق على مدى العقود الغابرة استثمار الحقل وتطوير إنتاجه.
على الرغم من تمسّك السعودية والكويت بملكيّتهما الكاملة للحقل، غير أنّهما لم تقفلا الطريق أمام اتفاق مع إيران في حال نجحت مفاوضات ترسيم الحدود. وحين أُبرم اتفاق المالكَين، السعودي والكويتي، على تطوير الحقل في نيسان من العام الماضي، احتجّت طهران واعتبرت الاتفاق “غير قانوني”. وحتى لو كان في هذا السجال ما هو مشروع بين عواصم تتنازع أملاكاً على حدود بحريّة غير مرسّمة، غير أنّ إعلان سلطات إيران النفطية لم يختلف في لهجته عمّا درجت عليه ذراع البلد العسكرية الأمنيّة الحرس الثوري من تهديدات.
على الرغم من تمسّك السعودية والكويت بملكيّتهما الكاملة للحقل، غير أنّهما لم تقفلا الطريق أمام اتفاق مع إيران في حال نجحت مفاوضات ترسيم الحدود
استدراج لصدام؟
تهدِّد طهران ببدء أعمال الحفر استدراج لصدام لا يشبه الأجواء التي بثّها الاتفاق السعودي الإيراني في بكين المبرم في 10 آذار الماضي. أتى الإعلان الإيراني بعد أسبوع من زيارة قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للكويت أرادها فاتحة انفتاح وانفراج في علاقة بلاده مع دول مجلس التعاون الخليجي. ولا شيء في ما تَعِدُ به طهران من انفتاح على القاهرة والرباط لطيّ صفحة قطيعة مع مصر والمغرب… يفسّر ما صدر من أعراض غير مفهومة تنال من العلاقة مع الخليج عامة، ومع السعودية الشريكة في نصوص بكين خاصة.
الواضح أنّ موقف طهران ليس عرضيّاً، بل يستهدف إرسال مجسٍّ لاستكشاف أو استدراج ردود فعل من الرياض والكويت. والواضح أنّه كان لطهران ما أرادت، إذ أتى الردّ من العاصمتين حاسماً حازماً لا لبس فيه. فقد أعلن وزير النفط الكويتي سعد البراك رفض بلاده “الادّعاءات والإجراءات الإيرانية بشأن الحقل”. ونُقل عن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية الكويتية أنّ للكويت والسعودية وحدهما الحقّ في ثروات حقل الدرّة، وأنّ المنطقة البحريّة المعنية تقع في المناطق البحريّة لدولة الكويت، وأنّ الثروات الطبيعية فيها مشتركة بين الكويت والمملكة، اللتين لهما وحدهما حقوق خالصة في الثروة الطبيعية في حقل الدرّة.
لكنّ الردّ الذي وُصف بـ”الشديد اللهجة” جاء من السعودية. فقد أوضح مصدرٌ مطّلع في وزارة الخارجية أنّ “ملكيّة الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة، بما فيها حقل الدرّة بكامله، هي ملكيّة مشتركة بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة”.
جاء موقف السعودية متّسقاً مع ثوابت المملكة في طبيعة علاقاتها مع الكويت. استعادت وسائط الإعلام الاجتماعي في الساعات الأخيرة مواقف للملك الراحل فهد بن عبد العزيز أُطلق عليها اسم “خطّ فهد” تؤكّد وقوف بلاده الدائم مع الكويت وتعتبر أنّه “إذا راحت كرامة الكويت راحت كرامة السعودية”.
يشكّل الموقف الحاسم والحازم للسعودية والكويت مناسبة للتذكير بثوابت أيّ علاقة تطمح إليها إيران مع المنطقة الخليجية
استعلاء إيران على دول المنطقة
وفق مصدر إيراني فإنّ الخلاف المتعلّق بهذا الحقل تقنيّ، إذ تصرّ طهران على أن يكون ترسيم الحدود على أساس الجسم القارّي بما يمنح إيران حصّة تبلغ 40 في المئة من الحقل، فيما تؤكّد الكويت وجوب أن يكون الترسيم طبقاً للحدود البرّية، وهذا يعني أنّ إيران خارج الحقل بشكل كامل.
لا تكمن المشكلة في ما هو حقّ وما هو مزاعم حقّ. فلطالما نشبت خلافات بين الدول بشأن حصص الموارد المشتركة. لكنّ المشكلة، وفق مصدر خليجي، تكمن في استمرار نزوع إيران إلى التعامل مع دول المنطقة باستعلاء واستقواء واستخدام لهجة لا تخيف المنطقة وتتناقض مع ما يصدر عن طهران نفسها من دعوات إلى تصفير المشاكل وصولاً إلى إقامة نظام أمني واقتصادي إقليمي يقي المنطقة التدخّلات الخارجية.
تدور أسئلة لدى المراقبين للشؤون الإيرانية بشأن ما إذا كان انقسام داخلي بشأن اتفاق بكين بدأ يعبّر عن نفسه، وعمّا إذا كانت تيارات تضغط باتجاه نسف الصفقة مع السعودية أو تحاول ذلك. وتستغرب هذه الأوساط استعجال طهران حرق المراحل والاندفاع لفتح ملفّ حقل الدرّة قبل حلحلة أولويّات أكثر حرجاً، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالتوصّل إلى اتفاق دولي يعيد تفعيل كلّ موارد الطاقة في إيران ويفتح الأسواق أمامها قبل افتعال معركة حول حصّتها المفترضة من الحقل السعودي الكويتي.
إقرأ أيضاً: إيران – السعودية: إمتحان “حقل الدرّة”.. والذكاء الاصطناعي
في هذا السياق أعلن بيان وزارة الخارجية السعودية أنّ “المملكة تجدّد دعواتها السابقة للجانب الإيراني إلى البدء بمفاوضات لترسيم الحدّ الشرقيّ للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرفٍ تفاوضيٍّ واحد مقابل الجانب الإيراني، وفقاً لأحكام القانون الدولي”.
يشكّل الموقف الحاسم والحازم للسعودية والكويت مناسبة للتذكير بثوابت أيّ علاقة تطمح إليها إيران مع المنطقة الخليجية. لكنّ في تلك المواقف ما يضع ملاحق جديدة غير مكتوبة للاتفاق السعودي الإيراني في بكين، لجهة التأكيد أنّ الصفقة مدخل إلى تفاهمات لا تحتمل التهديد وأنّ مصالح دول المنطقة لن تخضع للابتزاز التقليدي في سلوك طهران، وأنّه لا يمكن إخضاع “الدرّة” لشروط تسيء طهران استنتاجها من نصّ بكين.