أعاد البطريرك الماروني بشارة الراعي التأكيد على الدور المحوري لبكركي في الحياة السياسيّة والوطنية في نداء 5 تموز. ولعلّ الوقع الذي أحدثه هذا النداء “التأسيسي” في المشهد السياسي، يعاكس شكوى المسيحيين المستمرة من تراجع دورهم في النظام السياسي، حتّى بعد وصول “الرئيس القوي” إلى قصر بعبدا. فإذا بارتدادات عظة رأس الكنيسة المارونية الأحد الماضي تثبت أنّ البطريركية المارونية ما زالت تحافظ على قدرتها على التحوّل إلى مركز استقطاب سياسي لا للبنانيين وحسب، وإنّما للعرب والدوليين أيضاً، وذلك تبعاً لمضمون خطابها وتوقيته، خصوصاً عندما تقفل الأزمة السياسية والاقتصادية على استعصاء نتيجة عجز السلطة السياسية عن المبادرة واحتواء تفاقم الأزمة.
إقرأ أيضاً: بكركي “الثائرة”: الراعي يستعيد مجد حماية لبنان
والحال، فإنّ زيارة سفير المملكة العربية السعودية وليد البخاري للراعي، بعد أقلّ من 48 ساعة على إطلاقه “نداء النجدة” للدولِ الصديقةِ للإسراع إلى مساعدة لبنان، قد دلّت على أمرين متلازمين: أولّهما دعم السعودية لـ”نداء 5 تموز” خصوصاً لجهة مطالبته بـ “حياد لبنان والنأي بالنفس”، على ما قال سفيرها عقب الزيارة، مشدّداً على كلام البطريرك “لناحية إعادة الثقة للأسرتين العربية والدولية بلبنان”، ومبدياً “استعداد بلاده الدائم لدعم لبنان والوقوف إلى جانبه”. وهي مواقف، لاسيّما لجهة الربط بين حياد لبنان والثقة العربية والدولية به ووقوف السعودية إلى جانبه، تحيل إلى الدلالة الثانية للزيارة، أي إلى وجود دينامية سياسيّة عربية ودولية تمانع جرّ لبنان إلى “المحور الإيراني”، لكنّها تتجاوز في وتيرتها، بحسب قراءة أوساط متابعة، الدينامية السياسية الداخلية للمعارضة المنقسمة على نفسها.
كذلك كان لافتاً في تصريح الكاردينال غالاغر دعوته لبنان إلى محاورة واشنطن لا صندوق النقد وحسب
وليس قليل الدلالة في السياق عينه، دخول دولة الفاتيكان على خطّ الأزمة اللبنانية من خلال استقبال وزير خارجيتها الكاردينال بول ريتشارد غالاغر نظيره اللبناني ناصيف حتّي الثلاثاء وتأكيده وجوب الوقوف إلى جانب لبنان، ودعوته بيروت إلى “التحاور مع الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي لإيجاد المخارج اللازمة للأزمة الاقتصادية والمالية”، كما وعده بـ”مساعدة لبنان وإيجاد الحلول المناسبة مع الشركاء الدوليين”. وهذه مواقف فاتيكانية تعكس في توقيتها ومضمونها استشعار الكرسي الرسولي لمخاطر الأزمة المالية والاقتصادية على لبنان، وبطبيعة الحال على مسيحييه. خصوصاً أنّها رتّبت تبعات خطيرة على المدارس الكاثوليكية والمؤسسات الكنسية الأخرى بما قد يؤدّي إلى إقفال العديد منها.
كذلك كان لافتاً في تصريح الكاردينال غالاغر دعوته لبنان إلى محاورة واشنطن لا صندوق النقد وحسب، وهو ما يعدّ إشارة ديبلوماسية من قبله تعكس نظرة الفاتيكان إلى السياسة الخارجية اللبنانية ووجهتها التاريخية غير المعادية للغرب. كما يؤكّد موقفه رغبة الكرسي الرسولي بتكثيف اتصالاته الدولية بشأن لبنان، ما يعني عملياّ وجود قابلية دولية لها. علماً أنّ استقبال الفاتيكان لحتّي كانت قد سبقته حركة مكوكية للسفير البابوي في بيروت خلال الأسابيع القليلة الماضية، إذ جال على الرؤساء الثلاثة كما التقى رئيس “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، هذا فضلاً عن لقاءاته السياسيّة في مقرّ السفارة في حريصا. وقد استشعر زوّاره في الآونة الأخيرة مدى اهتمام دولته بالوضع اللبناني وتطوّراته.
أمّا على المستوى الداخلي، فقد عكست وتيرة التفاعل السياسيّ مع مواقف الراعي حقيقة المشهد السياسي ولاسيّما في الوسط المسيحي. إذ لم توحِ مواقف الأحزاب الداعمة لها بإمكانية استعادة مشهدية “نداء المطارنة الموارنة” في العام 2000 الذي كان بمثابة قوّة دفع سياسية تمخضّت عن تشكّل إطار سياسي جبهوي هو “لقاء قرنة شهوان”. وهو ما كان متوقّعاً لثلاثة أسباب: أوّلها التنابذ الكبير بين الأحزاب والقوى السياسيّة المسيحية التي كانت في تلك المرحلة تستظلّ الصرح البطريركي. وثانيها أنّ التموضع السياسي لـ”القوات اللبنانية” بعد تسوية العام 2006 عكس تبدّلاً كبيراً في أولوياتها السياسية، وكذلك في طبيعة حركتها السياسية وتحالفاتها. كما أنّ حزب “الكتائب”، وإن كان متحرّراً من أعباء التسوية تلك، لكنّه يبدو شديد التحفّظ على المبادرة ضمن اللعبة السياسية التقليدية. وثالثها أنّ القوى السياسية المسيحية، وإن كانت قد أبدت تأييدها لمواقف الراعي، إلا أنّها تقيس درجة تفاعلها معها، خشية أن يعيد البطريرك تفسيرها على غير ما فسّرتها هي. علماً أنّ أوساطاً كنسية تؤكّد أنّ لا رجوع عن هذه المواقف، لا بل تؤكّد أنها تأتي “ضمن مسار تصاعدي”. بينما تشير أوساط سياسية إلى أنّه حتّى لو حصل أيّ “توضيح” لهذه المواقف، فإن “ما قيل قد قيل”. ولهذه الأسباب فإنّ الأنظار قد توجّهت إلى رصد التفاعل الإسلامي لا المسيحي مع مواقف البطريرك. ولذلك، فقد اعتبر موقف “المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى” الثلاثاء بمثابة ملاقاة لنداء بكركي، إذ اعتبر أنّ “المسألة أصبحت مسألة مستقبل ومصير”، متسائلاً عمّا “يدعو أولي الأمر إلى البقاء في السلطة، وهم لا يخفون عجزَهم عن تحمّل مسؤولية قيادتهم للبلاد وعدم قدرتهم على الإنقاذ؟”.
البطريرك يخاطب الدول بالقول: إذا شئتم معاقبة السلطة السياسية فلا تعاقبوا كلّ لبنان
وفي سياق تفاعل الأوساط السياسية المسيحية مع “نداء النجدة”، عبّر أمين سر لقاء “قرنة شهوان” المحامي سمير عبد الملك، في اتصال مع “أساس”، عن خشيته من أنّ تكون مواقف الراعي “طلقة في الهواء”، إذ أتت خارج أيّ سياق سياسي تراكمي بعكس ما حصل أيام البطريرك صفير الذي تبنّى سياسة معارضة واضحة وصريحة عبّر عنها بشكّل متدرّج إلى أن وصل إلى النداء الشهير في العام 2000. ولا يرى عبد الملك مساراً من هذا النوع اليوم، ثم يكمل: “علينا الانتظار”. ويذكّر بموقف مطران بيروت للموارنة خلال قداس عيد مار مارون في الجميزة، الذي لم يترجم سياسياً حينها، بل بدا مع الوقت أنّه كان كلاماً “موضعياً”.
من جهته يشير عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب آدي أبي اللمع إلى أنّ مواقف الراعي الأخيرة تنسجم مع المواقف التاريخية للبطريركية المارونية في كلّ مرة تشعر فيها أنّ سيادة لبنان واستمراريته في خطر.
ويقول لـ “أساس”: “ما قاله البطريرك كان واضحاً ووضع الأصبع على الجرح. وهو لا يحتمل أيّ تفسيرات، والرجوع عنه كما تمييعه غير ممكنين”، داعياً إلى “التفاف القوى السيادية حول مطلب الحياد”، علماً أنّ حزب “القوات”، الذي أصدر بياناً الإثنين داعماً لمواقف البطريرك، وأرسل وفداً نيابياً وحزبياً “مدروساً” إلى الديمان الثلاثاء، تعامل بتحفّظ إعلامي مع أيّ امكانية لتكوين جبهة سياسية تستظلّ هذه المواقف.
أمّا الدكتور سليم الصايغ نائب رئيس حزب “الكتائب”، الذي خلا بيان مكتبه السياسي الثلاثاء من أيّ تأييد مباشر لموقف البطريرك بالرغم من دعوته (البيان) إلى تحييد لبنان واستعادة قراره الحرّ، فيشير إلى أنّ “دعوة البطريرك ليست فقط دعوة دولية إنما دعوة وطنية أيضاً، إذ هو يخاطب السياسيين وخصوصاَ رئيس الجمهورية لكي يفكّ الحصار عنه، ولكي يتحرّر من براثن من كان له الفضل الأكبر في وصوله إلى الحكم”.
يضيف لـ “أساس”: “البطريرك يخاطب الدول بالقول: إذا شئتم معاقبة السلطة السياسية فلا تعاقبوا كلّ لبنان. لا تستطيعون أن تقتلوا الرهينة بحجّة تحريرها. فالشعب اللبناني برمّته مقبوض عليه من قبل رهينة أخرى هي السلطة الحاكمة”.
ويذكّر باقتراح حزب “الكتائب” تعديل الدستور لتضمين مقدّمته فقرة عن حياد لبنان، “لأنّ مبدأ الحياد كان منذ الاستقلال جسر العبور إلى تحقيق الميثاق بحيث لا ميثاق ولا اطمئنان بين اللبنانيين من دون إعلان حياد لبنان، وأنه لن يذهب إلى محور قد يبدّل هويته وخصائصه”.