مُقامر طائش… أوقع ابنة عبد الناصر في غرامِهِ

مدة القراءة 11 د

 

قبل شهر من الذكرى الخمسين لحرب تشرين أو حرب يوم الغفران Yom Kippur war بحسب المصطلح الإسرائيلي، نشر الموساد يوم الخميس في 7 أيلول الجاري صورة لجاسوس مصري يحمل الاسم الرمزي “الملاك”. وأهمية هذا الجاسوس أنه الذي حذّر الموساد بأن الحرب على إسرائيل ستبدأ في اليوم التالي، أي في 6 تشرين الأول عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد. كما نشر الموساد المحادثة التي جرت في ذلك اليوم بين رئيس الموساد آنذاك تسفي زامير والعميل المصري، الذي تبين لاحقاً أنه أشرف مروان، صهر الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.

لقد حذّر مروان زامير قائلاً له: “هناك فرصة بنسبة 99% بأن تبدأ الحرب غداً … في وقت واحد على كلا الجبهتين، المصرية والسورية”. بل ذكر تفاصيل الهجوم لا توقيته وحسب، فالمصريون خطّطوا لقصف مدفعي تمهيدي ضخم، و”تحريك الجيش بأكمله تقريباً عبر قناة السويس، كما أخبره أن السوريين “خطّطوا للاستيلاء على مرتفعات الجولان. تلقت القيادة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية هذه التحذيرات بقدر كبير من التجاهل وعدم التصديق. وفاجأ الهجوم إسرائيل.

كتاب الباحث الإسرائيلي يوري بار جوزف Uri Bar-Joseph، “”The Angele The Egyptin Spy Who Saved Israel والصادر عام 2016، يؤكد أن معلومات مروان، مع أنها لم تؤخذ بما يكفي من الجدّية لدى القيادة الإسرائيلية آنذاك، لكنها أنقذت إسرائيل من الهزيمة. فبفضل الاستدعاء الجزئي للاحتياط، تمكن الإسرائيليون من إجهاض الهجوم السوري في الجولان. وفي سيناء، استوعب الإسرائيليون الهجوم المصري، وتمكنوا من العبور المضاد إلى الضفة الأخرى من قناة السويس ومحاصرة الجيش الثالث المصري. وخلاصة الكتاب البرهنة على أن صهر الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن عميلاً مزدوجاً بل كان مخلصاً لإسرائيل.

كانت أفضل طاقات أشرف مروان تنصب على ملاعب التنس، وعضواً في رابطة مشجعي نادي هيليوبوليس سبورتنغ، الذي لا يبعد أكثر من ثمانمئة متر عن منزل والديه

وكان أشرف مروان لقي حتفه في لندن في 27 حزيران عام 2007 عندما سقط من شرفة الطابق الرابع لمبنى سكني راقٍ. لم تكشف التحقيقات ما إذا كان قد سقط أو دُفع إلى السقوط. لكن السلطات المصرية نظمّت له جنازة كبيرة بوصفه بطلاً.

في عام 2019، حكم على خالد لطفي مؤسس دار نشر مصرية، بالسجن خمس سنوات لتوزيعه رواية إسرائيلية عن مروان بتهمة أن الكتاب كشف أسراراً عسكرية مصرية. وفي عام 2018، صدر فيلم “الملاك” في قناة Netflix، لتسليط الضوء على دور مروان في الحرب. وأعلن الموساد أنه سينشر كتاباً تكريمياً لدور الوكالة التجسسية في حرب يوم الغفران، يوضح بالتفصيل كيف كشف الموساد الكثير من خطة مصر لهجوم مفاجئ قبل الحرب.

فيما يلي مقتبسات من كتاب “الملاك” الذي ترجمه فادي داؤد، وصدر عن مكتبة تنمية بالتعاون مع الدار العربية للعلوم ناشرون.

ردّ الحانب المصري بالإصرار على اعتبار أشرف مروان بطلاً قومياً مصرياً، وأنّه كان عميلاً مزدوجاً خدع الإسرائيليين ومرّر لهم معلومات مغلوطة وساهم في الانتصار وليس العكس. وقد بثّت قناة “العربية” قبل أيام حلقة حوارية كاملة استضافت ممثّلاً عن الجانب الاسرائيلي، والدكتور محمد مجاهد الزيّات، المستشار في “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، الذي مثّل موقف القاهرة، فأكّد أنّ أشرف مروان لم يكن عميلاً. ودليله أنّه منذ خروج هذا النقاش إلى العلن لم يُبرز الإسرائيليون وثيقةً أو مستنداً واحداً يؤكّد مزاعمهم.

لمشاهدة فيديو الحلقة كاملاً في ختام هذا المقال.

نبدأ اليوم بنشر الحلقة الأولى من سلسلة مقتطفات من الكتاب، على أن تتبعها ثلاث حلقات.

أشرف..الشاب الواعد

…”لا يوجد في نشأة أشرف مروان ما هو غير اعتيادي بشكل خاص. فهو قد ترعرع مع شقيقه هاني، واختيه الأصغر، منى وعزة، في القاهرة في منزل عادي من منازل الطبقة الوسطى. في العام 1952، حين كان بعمر الثامنة، شهدت مصر تولي الضباط الاحرار زمام الأمور، وهم الذين أوصلوا جمال عبد الناصر – الرجل الذي أصبح في غضون سنوات القائد الأكثر شعبية في العالم العربي – إلى السلطة. لكن والد مروان كان لا يزال ضابطاً بسيطاً، ولهذا لم تكن له أي علاقة بحركة الضباط الأحرار. ومع ذلك فقد ترعرعت العائلة بجوار القيادة الجديدة، نظراً لمجيء العديد من الشخصيات القيادية لتعيش في الجوار بعد وصولها الى السلطة بوقت قصير. كان عبد الناصر يعيش مع  اسرته على مدى سنوات في منشية البكري، التي انتقل إليها عدد كبير من الضباط الأحرار. وسرعان ما أصبحت تُعرف بالمركز العصبي للسلطة السياسية في النظام الجديد.

المدارس التي ارتادها مروان على امتداد طفولته تقع في الحي نفسه: ست سنوات في مدرسة منشية البكري الابتدائية، ثلاث سنوات في مدرسة الحلفاء الإعدادية، وأخيراً في مدرسة كوبري القبة الثانوية، حيث تخصص في العلوم.

كانت المدارس في مصر في ذلك الوقت مجانية. لكن كان على العائلة دفع ثمن الكتب المدرسية وبعض المصاريف الأخرى مثل الضمان الصحي. الدراسة في الثانوية كانت مكثفة: سبع أو ثماني ساعات يومياً، تتضمن سبع حصص أسبوعية للرياضيات، خمس حصص للغة الانكليزية، أربع حصص للفرنسية، وثلاث حصص لكل من الكيمياء، وعلم الأحياء، ومادة ثالثة للعلوم التربوية من اختياره.

في هذه المرحلة كانت مزايا مروان الكثيرة قد بدأت تتبلور، وخاصة الذكاء المتقد الذي أمّن له درجات عالية متميّزة، درجات مكّنته من الحصول على قبول في الاحتياطي الأكاديمي لنخبة الجيش. وهذا البرنامج سمح له بتأجيل خدمته العسكرية والانخراط في برنامج بكالوريوس في الكيمياء بجامعة القاهرة في الجيزة. تضمنت دراسته برنامجاً خاصاً لتدريب الضباط، وقد أتمّه برتبة ملازم ثانٍ. في عام 1965 حصل على البكالوريوس وبدأ يخدم كضابط ومهندس كيميائي في الصناعة العسكرية المصرية.

بالرغن من منهاجه الدراسي المكثف، كان مروان يجد وقتاً ليستفيض في قراءة مواضيع لا علاقة لها باختصاصه، بشكل خاص الاقتصاد والصناعة المصرفية والاستثمار. الناس الذين يتذكرونه من تلك المرحلة يصفونه بأنه كان طويلاً وجذاباً وودوداً. كان يعرف كيف يحصل على أقصى ما يمكن من الحياة.

كانت أفضل طاقات أشرف مروان تنصب على ملاعب التنس، وعضواً في رابطة مشجعي نادي هيليوبوليس سبورتنغ، الذي لا يبعد أكثر من ثمانمئة متر عن منزل والديه. وهناك، في عمر الحادية والعشرين، التقى المرأة التي أصبحت فيما بعد زوجته ورافعته على الهرمية المصرية.

كان أشرف مروان لقي حتفه في لندن في 27 حزيران عام 2007 عندما سقط من شرفة الطابق الرابع لمبنى سكني راقٍ. لم تكشف التحقيقات ما إذا كان قد سقط أو دُفع إلى السقوط

حب على طريق الصعود

وُلدت منى عبد الناصر ابنة الرئيس، في كانون الثاني 1947، بعد زواج والديها بعامين، وبعد عام على ولادة شقيقتها الكبرى هدى. كانت منى بعمر الثامنة عشرة وتدرس في الجامعة الأميركية في القاهرة حين التقت أشرف مروان أول مرة، في صيف عام 1965، بعد إنهائها السنة الأولى من الكلية. وتزوجا في غضون سنة. لم يكن اللقاء مجرد مصادفة. فقد كانت عزة، شقيقة مروان، المقرّبة جداً منه، في عمر منى، وصديقة مقرّبة منها. وعملت على ترتيب اللقاء بين منى وأشرف، بعدما أخبرت منى بكل شيء عن شقيقها الموهوب والوسيم. وكان اللقاء في نادي هوليوبوليس الذي كان في ذلك الوقت من أشهر الأماكن لالتقاء الشباب المصري المتحدّر من عائلات مرموقة. كان أشرف بعمر الواحدة والعشرين سنة، متعطشاً وطموحاً وباحثاً عن العظمة. وزواجه من منى جمال عبد الناصر سيضعه مباشرة على الطريق لتحقيق قدره.

طلب عبد الناصر إجراء استعلام كامل عن أشرف مروان. الرجل المسؤول عن ذلك كان سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، وأحد أكثر رجال مصر نفوذاً. وهو من سيؤدي في السنوات التالية دوراً حاسماً في قصة مروان.

التقرير الذي قدّمه شرف لعبد الناصر لم يكن مشجعا، وفيد تشديد على طموحات مروان وولعه بالحياة المترفة، مع التشكيك بصدق مشاعره نحو منى. بالنسبة إلى عبد الناصر، المتشدد في حياته  الشخصية والقلق أصلاً من نمط حياة ابنته، لم يكن ذلك الخاطب خياراً جيداً، على أقل تقدير. كان ناصر مقبلاً على تزويج هدى من رجل جدّي ومتعلم ومتواضع، وكان يعتبر عريسها مثالاً جيداً للشخص الذي يرغب في أن تتزوج منه منى أيضاً. وهكذا جلس بعد استلامه تقرير شرف مع منى في حديث من القلب للقلب محاولاً إقناعها بعدم الزواج من أشرف مروان.

رفضت منى الإصغاء. كانت قد اتخذت قرارها وأصرّت على أن يجلس ناصر مع والد مروان للتباحث في ترتيبات الخطوبة. رفض عبد الناصر طلبها أكثر من مرة، لكن في النهاية، تراجع أعظم قائد عربي منذ صلاح الدين أمام إصرار ابنته، ووافق على مقابلة والد أشرف مروان.

شهدت حياة أشرف مروان أيضاً تغيرات عدة، إذ أدى زواجه من منى إلى تحسين وضعه بشكل كبير وقرّبه من المراكز الرئيسية للسلطة في مصر، بما فاق توقعاته وتمنياته. فسرعان ما جرى نقله من المعامل الكيميائية في الصناعة العسكرية المصرية إلى الحرس الثوري، وهو فرع من الجيش مهمته الرئيسية حماية المنشآت الحساسة على الجبهة الداخلية. لكن في حين اعتبر أشرف مروان هذا الانتقال خطوة للأعلى، كان ذلك في الحقيقة دليلاً على ثقة الرئيس الهشة بصهره. لقد أراده أن يبقى قريباً منه.

الراتب الذي كان يتقاضاه مروان زهيد جداً، وهو راتب متواضع لمنصب متواضع في المكتب الرئاسي

لكن قربه لم يكن كافياً، والمعلومات التي وصلت إلى الزعيم المصري عن طموحات أشرف مروان جعلته مقتنعاً بضرورة القيام بخطوة أخرى. وهكذا، في عام 1968، نُقل أشرف مروان للعمل في المكتب الرئاسي، تحت إشراف مباشر من رئيس المكتب، سامي شرف.

الراتب الذي كان يتقاضاه مروان زهيد جداً، وهو راتب متواضع لمنصب متواضع في المكتب الرئاسي. وكانت منى تتقاضى من عملها في قسم كتب الأطفال في مركز الأهرام 35 جنيهاً في الشهر. وكان هذا مقبولاً لأسرة من الطبقة الوسطى. لكن هذا لم يلبّ توقعاتهما لحياة أفضل.

القمار في لندن

قرر أشرف مروان تقديم طلب للدراسة في لندن لنيل الماجستير في الكيمياء. وافق عبد الناصر. وانتقلت الأسرة أواخر عام 1968 إلى إحدى أكثر العواصم ديناميكية. كان عبد الناصر قد خصّص لهما منحة متوسطة، إضافة إلى راتب مروان كموظف في السفارة المصرية في لندن. وسرعان ما وقع أشرف في إغراءات المدينة، فولع بالقمار، وتراكمت عليه الديون، ما دفع سعاد الصباح زوجة الشيخ عبد الله المبارك الصباح إلى دفع ديونه. وصل الخبر إلى عبد الناصر. كان رد فعله سريعاً وعنيفاً. فأمر السفارة بوضع أشرف على أول طائرة إلى القاهرة. وبمجرد وصوله اقتيد مباشرة إلى عبد الناصر الذي طالبه بتفسير. حاول مروان إقناع الرئيس بأن الحياة الباهظة في لندن اضطرته إلى قبول المال. لكن عبد الناصر كان سمع عن نمط حياة منى وأشرف في لندن، وعن لياليهما في الخارج، وعن مقامرة أشرف، فأمر بأن تعود ابنته إلى القاهرة، وأصرّ على طلاقها من أشرف. لكن منى التي كانت تعشق مروان من كل قلبها رفضت الطلب. استسلم عبد الناصر لرغبة ابنته، لكنه عقد اتفاقاً مع والد أشرف، يقضي بعودة صهره إلى مصر، والعمل مجدداً في المكتب الرئاسي، ومتابعة الدراسة في لندن، على أن لا يذهب إلى انكلترا إلا عدة أيام فقط، من حين لآخر، من أجل تسليم أوراق أو تقديم امتحانات.

إقرأ أيضاً: أرمينيا تستسلم في قره باغ… بعدما باعها “الأميركي”

الوساطة مع الشاذلي

ومع أن مكانة مروان في نظر عبد الناصر كانت هشة، إلا أن الرئيس كان يلجأ بين الفينة والأخرى إلى مهاراته الدبلوماسية. وربما يكون أهم مثال على ذلك، نجاح أشرف مروان في إثناء سعد الدين الشاذلي عن الاستقالة التي قدّمها في آذار عام 1969، عندما كان قائداً للقوات الخاصة، بسبب قرار تعيين أحمد إسماعيل في منصب قائد الأركان، بدلاً من عبد المنعم رياض الذي اغتالته إسرائيل بقذائف المورتر. فبعد فشل كل المحاولات لتغيير قرار الشاذلي، أرسل عبد الناصر صهره أشرف مروان إليه حاملاً رسالة شخصية منه، معتبراً أن استقالته بمنزلة انتقاد للرئيس. نجح مروان أخيراً في إقناع الشاذلي على أن لا يتجاوز قائد الأركان الجديد صلاحياته.

في الحلقة الثانية غداً:

عرض خدماته على الموساد لينتقم من “حمِيهِ”… عبد الناصر

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

 

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…