في لبنان اليوم فريقان يغامران بالمستقبل والمصير.
فريق يملك كلّ شيء، المال والسلطة (بالحلال والحرام)، وهو مستعدّ أن يغامر بكلّ شيء حتى يحتفظ بما لديه لتجنّب التعرّض لتشويه سمعة أو لمحاكمة وإدانة.
وفريق لا يملك أيّ شيء من المال والسلطة (بالحلال أو الحرام)، وهو مستعدّ أن يغامر بكلّ شيء ممّا بقي لاسترجاع ما خسره (أو بعض ما خسره) لإنقاذ الدولة وسمعتها ممّا تعرّضت له من تشويه سمعة وإدانة بتهمة التخلّي عن الدور والرسالة.
في الشكل الدستوري، البوّابة إلى حلبة هذا الصراع ليست الشارع ولا السراي أو القصر الرئاسي. البوّابة هي مجلس النواب. ولكنّ المجلس تحوّل إلى طرف في الصراع بين الذين يملكون كلّ شيء، والذين لا يملكون شيئاً، بين المتسلّطين والمهمّشين. وأصبح بذلك حَكَماً وخصماً في الوقت ذاته. هو حكَم في الواقع الشرعي الدستوري، وهو خصم في الواقع السياسي الوطني.
مرّات عديدة تعهّد لبنان بضبط لسان السوء ضدّ الأهل والأصدقاء، لكنّه لم يلتزم. ومرّات عديدة أيضاً تعهّد الالتزام بضوابط وبأخلاقيات رسالة العيش المشترك، ونكث بتلك التعهّدات
السلطة أمسكت بالمجلس مجدّداً
كان يؤمَل أن ينقلب المجلس على ذاته عبر الانتخابات البرلمانية الأخيرة وأن يعكس في نتائجه سلسلة تحرّكات الشارع من تظاهرات وإضرابات ومسيرات. ولكنّ ذلك لم يحدث. الذي حدث هو أنّ الذين يملكون كلّ شيء كرّسوا ملكيّتهم أيضاً لإدارة اللعبة السياسية داخل المجلس وأمسكوا بتلابيبها. ولو حدث العكس لكان ذلك بمنزلة إدانة ذاتية أو حُكم بالإدانة، ولكان هذا الحكم مدخلاً إلى التغيير الإصلاحي المنشود.. أو المفقود بالتي هي أحسن. ولكنّ صاحب سلطة إصدار الحكم كُفّت يده، ولُويت ذراعه، واضطرّ إلى أن يبتلع لسانه بقوّة التهييج الطائفي أو المذهبي، أو الاثنين معاً.
خرج لبنان من الانتخابات ليجد نفسه فوق خشبة المسرح ذاته، يؤدّي الدور ذاته، بالسيناريو ذاته، وبالممثّلين أنفسهم مع بعض التلوين، وأمام الجمهور ذاته، الذي هو نفسه.
التلوين ليس تغييراً. إنّه تجديدٌ للقديم. لا يمكن التحرّر من الغرق في الرمال المتحرّكة بمزيد من الحركة الإغراقية في هذه الرمال. لا بدّ من يد تمتدّ من الخارج للمساعدة. الأيدي كثيرة. ولكنّ بعضها يدفع إلى المزيد من الغرق وهو يحاول أن يُحسن صنعاً.
لا ينظر الغريق إلى هويّة اليد الممدودة أو لونها أو شكلها. الغريق يتلقّف اليد أيّاً كانت بهدف الخروج من محنة الغرق والموت اختناقاً. ولكن في حسابات لعبة الأمم لا توجد مساعدة مجّانية. كلّ شيء له ثمن. الغريق لا يجادل في الثمن. وصاحب اليد أو أصحاب الأيدي تعلّموا من التجارب العديدة الماضية، وكلّها غير مشجّعة على الاطمئنان إلى الوفاء بتسديد الثمن، حتى أصبحوا يمارسون سياسة “النفخ على اللبن” بعدما أحرقت ألسنتهم حرارة حليب الوعود والتعهّدات اللبنانية السابقة.
“حلاوة” الفساد
مرّات عديدة تعهّد لبنان بضبط لسان السوء ضدّ الأهل والأصدقاء، لكنّه لم يلتزم. ومرّات عديدة أيضاً تعهّد الالتزام بضوابط وبأخلاقيات رسالة العيش المشترك، ونكث بتلك التعهّدات. ومرّات عديدة كذلك التزم بالضوابط الأخلاقية لإصلاح نظامه السياسي والمالي، لكنّ “حلاوة” الفساد ظلّت هي الطاغية.
لبنان شبيه بالإنسان الذي لا يستطيع أن يعطي ما لا يملك، أو أحسن ممّا يملك. فالفساد السياسي والمالي تحوّل من ظاهرة عابرة مع أشخاص عابرين إلى أساس ثابت في نظام مقيم. حتى إنّ المسّ بالأشخاص أصبح مسّاً بالدولة والنظام وأقدس المقدّسات!!
إذا امتدّت يد مسؤول إلى جيب الدولة فهو شاطر وابن مهنة. وإذا اكتُشف بالجرم المشهود فإنّ مساءلته تتحوّل إلى مساءلة لطائفته ( شو.. ما في غيرو!!). من أجل ذلك يعرف لبنان كثيراً عن السرقات، لكنّه لم يتعرّف قضائياً على سارق واحد. الدولة منهوبة، لكنّ جميع المسؤولين في الدولة من خيرة الأوادم، من رئيس الجمهورية حتى ناطور الأحراش! فلا الأوّل مسؤول عن خرق الدستور، ولا الثاني مسؤول عن حريق يأكل الأخضر واليابس.
إقرأ أيضاً: معجزة لبنانيّة في زمن اللامعجزات
في الأساس لا سلطة من دون مسؤولية. ولا مسؤولية من دون محاسبة. في لبنان المسؤول يحاسب نفسه، ولذلك هو بريء دائماً.. ولن تُثبَت إدانته، بل إنّه يذهب إلى حدّ إدانة متّهميه.. لمجرّد سوء الظنّ به.. حتى وإن كان غاطساً في الرذيلة حتى أذنيه.
يلتزم لبنان بالقاعدة الحقوقية الذهبية التي تقول إنّ المتّهم بريء حتى تثبت إدانته. ويلتزم لبنان أيضاً بثقافة “الثبوت المستحيل”.
من أجل ذلك نشير إلى المتّهم الخارجيّ وأيدينا تقطر دماً.