“نحن جيل السفير”. جملة قالها صديق في السبعين من عمره. لكنّه إذ نطقها، شعرتُ أنّها تخصّني كما تخصّه، وربّما أكثر. فنحن الذين ولدنا في الثمانينيات، ومن ولدوا في التسعينيات أيضاً، في “الغربية” السياسية، شمالاً وجنوباً، كانت جريدة “السفير” هي العالم الذي كوّن بدايات وعيهم، في السياسة أو في الفنّ أو الثقافة أو الرياضة.
لكنّ الصديق ينتمي إلى الجيل السابق، من “وُلِدَت” السفير أمام عيونهم. وهو يعرف الحكاية من جانب آخر. فقبل “السفير” كان هناك جريدة “النهار” في بيروت. جريدة الأرستقراطية المسيحية، والنخبة المارونية لاحقاً، وبعد الحرب جريدة المعارضة للنظام السوري، ثمّ جريدة 14 آذار وتحالف العرب الجديد…
أمّا “السفير” فحكاية أخرى. حين ولدت، كانت بيروت “بلا صوت” تقريباً. وشعار “صوت الذين لا صوت لهم” بدا كأنّه يتحدّث عن “أهل بيروت”، سنّةً وشيعةً ودروزاً ويساريين، عروبيين وقوميين وناصريين وبعثيين وماركسيين. قبلها، قبل عام 1973، كان كلّ هؤلاء “بلا صوت” حرفيّاً. لا إعلام ينطق باسمهم، ولا مشروع يجمعهم. كانوا على مشارف اجتياح 1978 في الجنوب، وعلى أعتاب اجتياح 1982، حين كتب طلال سلمان المانشيت الشهير: “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء” في 5 آب.
بدأ “اغتيال” طلال سلمان في 2006. بعد سنوات ثلاث من احتلال العراق وفتح الجرح السنّيّ الشيعي هناك. بالنسبة إلى المشروع الإيراني، باتت العروبة “موضة قديمة”
خرجت “السفير” من رحم هذه المآزق. كانت الثورة الفلسطينية ما تزال تملأ بيروت. لكنّها كانت تتّجه صوب هزيمتها وخروجها من بيروت. وهو الناصريّ بحقّ، مع شعار “ما أُخِذَ بالقوّة، لا يُستردّ بغير القوّة”، الذي كنّا نقرأه كلّ يوم على رأس الصفحة الأخيرة، أسّس جريدته هذه في آب، قبل أشهر قليلة من “عبور” الجيش المصري، الذي بناه جمال عبد الناصر، عبور قناة السويس في 6 أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973.
“السفير” ولدت من رحم “الهزائم” في بيروت. لكنّ انتصاراً كبيراً كان يربط طلال سلمان والجريدة و”روحها”، بمصر وعروبتها الواسعة. كانت بيروت جزءاً من المشهد الذي يراه هذا الشابّ المتحمّس، ابن الدركي الآتي من شمسطار في أقاصي البقاع، ليعطي بيروت، هي و”أهلها”، “صوتاً”.
شيعيٌّ فقير، حملته العروبة إلى قصور الملوك والرؤساء والزعماء العرب، ليحاورهم ويقنعهم بمشروعه الفتيّ، ويورّطهم فيه. شيعيٌّ لم ينتبه لشيعيّته يوماً، حين وقف وراء أبي عمّار، ووراء كمال جنبلاط، ووراء عبد الناصر، ووراء جورج حاوي، وهو يكتب مع محسن إبراهيم بيان انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمّول، التي أخرجت القوات الإسرائيلية من بيروت ومعظم لبنان إلى مشارف صور والنبطية.
إنصافاً لـ”قَسَمه”
ولأنّنا، نحن “جيل السفير”، الذين وُلِدنا وآباؤنا يصطحبون الجريدة إلى المنزل حين يعودون من العمل، فننتظرهم، لنعرف ماذا يجري من حولنا… ولأنّنا، نحن أبناء البيوت العروبية والمقاوِمة، كنّا نعرف “السفير” ونحفظ أسماء كتّابها، ونصدّق كلماتها، لا يمكن إلّا أن نكون صوت طلال سلمان يوم رحيله.
هو الذي علّم كثيرين أن يكونوا “صوتاً” لمن لا صوت له، فلنكن صوته لمرّة أخيرة. فكلّ ما كُتِبَ عن طلال سلمان، بحلوهِ ومُرّهِ، بدا كأنّه يكتم شيئاً من أصل الحكاية. كأنّ هناك فيلاً في غرفة العزاء لم يكن أحد يريد أن ينظر إليه. فقد سار النعش بمرافقة وفود حزبية وشعبية، من حزبيين كانوا سبباً في “موتاته” الكثيرة، إلى جانب ناس وثقوا به وبكلماته ولا يعرفون ما الذي حصل.
بدأ “اغتيال” طلال سلمان في 2006. بعد سنوات ثلاث من احتلال العراق وفتح الجرح السنّيّ الشيعي هناك. بالنسبة إلى المشروع الإيراني، باتت العروبة “موضة قديمة”. فلا عروبة رفيق الحريري مسموحة، ولا عروبة طلال سلمان يمكن أن تستمرّ. فبدأ العمل على جبهات عديدة، منها جبهة الإعلام.
لم يقبل طلال سلمان أن يعبر حدود العروبة إلى إيران. بعض الداخل والخارج لم ينتبه لهذا التفصيل
كان لا بدّ من “إعلام” يشبه المشروع والمرحلة. إعلام مذهبي، تحريضيّ، يشارك في “الحرب” التي كانت تُطبخ “على السكت” للمنطقة كلّها. الحرب المذهبية التي أودت بعشرات الملايين بين قتيل وجريح ومفقود ومهجّر، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، وكان المخطّط أن تصل إلى دول الخليج فتدمّر مدنه كما دمّرت مدن المشرق التي كانت صامدة منذ آلاف السنوات.
عروبة “السفير”… مقتلها
كثيرون ربّما ظنّوا أنّ “عروبة” السفير كانت لتحميها. لكنّ العكس هو الصحيح. بعد 2005، وبعد اغتيال الحريري، كان في “السفير” أقلام تعاطفت مع قوى 14 آذار. بدا ذلك واضحاً في مقالات عبّاس بيضون، أحد “شعراء الجنوب” وكاتب “يا عليّ”. ومثله كان ساطع نور الدين، الذي كانت مقالته تدفعنا إلى أن نقرأ الجريدة من صفحتها الأخيرة أوّلاً، لنلتقط “حساسيّة” الاعتراض على بقيّة الجريدة، ولاحقاً زياد ماجد ووسام سعادة، اللذان لم يصمد أيّ منهما في إدارة “صفحة الرأي” للأسباب الموجبة أعلاه وأدناه، ومعهم نهاد المشنوق، الذي فتح للجريدة باباً على أهل طرابلس وصيدا والإقليم، وسدّ احتمالات فقدانها شرعيّتها السنّيّة… وهناك جهاد بزّي، وصوته الخافت، وأفكاره التي تهرب من الرقابة الذاتية، مثل زئبق لغويّ، وغيرهم كثيرون.
فشلت محاولات نقل الجريدة من “عروبية مقاوِمة” مع هامش “وطنيّ” يستوعب الأقلام أعلاه، وتنوّعٍ يليق بالعروبة وامتداداتها، وأقلام شيعية “مختلفة”، من زياد وجهاد وساطع، إلى جريدة تأتمر من الميليشيا وأصواتها ومنطقها.
فكيف لمن وقع في هوى عبد الناصر ومصر والعروبة، أن ينزل من هذا البرج العالي، إلى زواريب المذهبية والسلاح الطائفي؟ كيف يقبل أن ينخرط في مشروع سلخ لبنان عن محيطه وتاريخه ويربطه بمشروع الحزام المذهبي، وأن ينتقل من الأوتوستراد العربي الواسع، إلى “طريق القدس” الموهومة التي شرعت في إحراق عواصم العرب؟
“سفير” فلسطين وأبي عمّار وكمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وحازم صاغية وحسن داود… “سفير” الأفكار والنقاشات، جاءت مع العروبة، وذهبت مع مخطّط المذهبية. حين قرّر “الأخ الأكبر” أنّه زمن تشريح الخرائط واقتسام جثّة المشرق، ليتغذّى عليها وحش التطرّف، غير العربي، وأنّه زمن الإرهاب الفكري والاغتيال السياسي، قبل الإرهاب الديني، كان لا بدّ من إسكات طلال سلمان والأقلام التي يحتضنها ويجمعها، وكلّ واحد منها يعبّر عن شيء ما فيه وفي حساسيّاته “العروبية”.
نحن أبناء البيوت العروبية والمقاوِمة، كنّا نعرف “السفير” ونحفظ أسماء كتّابها، ونصدّق كلماتها، لا يمكن إلّا أن نكون صوت طلال سلمان يوم رحيله
طلال سلمان يقول “لا”
“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، لكنّ المذهبية هذه المرّة وليس العربية. و”السفير” جديّة لا تشتمّ بل تناقش، وإن بحدّة. في حين كان المطلوب الشتم والصراخ والفضائح واللغة الحادّة. كان زمن الميليشيات، وطلال سلمان رجل محترم يلبس البدلة.
لكن جاء “رجال الأمن” وقرّروا أوّلاً أنّ الحاجة ماسّة إلى جريدة مذهبية، وإعلام مذهبي. وثانياً أن لا علاقة لهذا المشروع بـ”بيروت” العاصمة “العربية”. وهذا “الصوت” الذي “اخترعه” شابّ متحمّس من البقاع، كان لا بدّ من تطويعه، أو إسكاته.
لكن كيف يمكن لمن رفع صوت المقاومة قبل ولادة الحزب بعقدين، وأنجب جريدته قبل ولادة الحزب بـ12 عاماً… كيف يرضى أن يتقبّل الأوامر ممّن تربّوا على حبر مقالاته، ولفّوا أفكارهم “المُقاوِمة” بورق جريدته؟
لم يقبل طلال سلمان أن يعبر حدود العروبة إلى إيران. بعض الداخل والخارج لم ينتبه لهذا التفصيل. الرجل الذي قدّس جمال عبد الناصر، وأراد عروبة من المحيط إلى الخليج، لا يمكن أن يقبل بتحويل قرّائه إلى شتّامين مذهبيين، يحرّضهم تارة بعضهم على بعض، سنّة وشيعة، ويُطلب منه أطواراً أن يغذّي نزعاتهم المتعجرفة.
بعدها قاتل طلال سلمان طوال عقد، قبل أن يستسلم في 2017.
إقرأ أيضاً: طلال سلمان والسنوات الستّون!
توافق من كتبوا على أنّه مات للمرّة الأولى في 2017 يوم صدور العدد الأخير من هذه المغامرة. لكنّ الأدقّ أنّ محاولة اغتياله بدأت في 2006، ونجحت في إسكاته في 2017، قبل أن يموت للمرّة الأخيرة قبل أيّام، صامتاً، غير مؤثّر، كما اعتدناهُ طوال حياته.
هناك مشروع كبير عبر في تلك الأيام، من لبنان إلى عواصم العرب، وما يزال، أخذ رفيق الحريري وكثيرين، وأخذ طلال سلمان، بالسيف أو بغيره، وكثيرين أيضاً من العروبيين والمقاومين واليساريين والليبراليين، الذين ما عاد المشهد يتّسع لاختلافهم.
“نحن جيل السفير”، كان لا بدّ من كلمة أخيرة لمن صنع ثقافتنا السياسية، وله دَيْنٌ علينا. كلمة حقّ نقولها في وداعه، وفي وداع العروبة المقاوِمة، التي كانت أخطر على ذلك المشروع، من كلّ خصومه.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@