في كلّ يوم تتواصل الحرب بين إسرائيل وغزّة، تزداد مخاطر وقوع كارثة. فبعد خسارة إسرائيل المروّعة لأكثر من 1,400 مدني وجندي في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ارتفع عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين في غزّة بشكل مروّع أيضاً. وبحسب وزارة الصحة في غزّة، قُتل أكثر من 11,240 فلسطيني منذ بداية الحرب، بينهم أكثر من 4,630 طفل. وتتدهور الأوضاع بسرعة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث قُتل ما لا يقلّ عن 155 فلسطينياً، واعتقل أكثر من 2,150 آخرين، بينما ترتفع أصوات القادة السياسيين والمستوطنين الإسرائيليين تهدّد بالتطهير العرقي.
في الشمال، يمكن أن تتحوّل عمليات تبادل إطلاق النار اليومي التي يتمّ التحكّم بها نسبياً بين إسرائيل والحزب إلى صراع حقيقي يشمل جزءاً كبيراً من لبنان وإسرائيل. قد يوصف تكثيف الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة بأنّه إجراء وقائي، لكنّه يشير أيضاً لقادة إسرائيل إلى أنّه يمكن جرّ أميركا إلى هذه الحرب، وهو أمر محفوف بالمخاطر يضاف إلى الحسابات وأخطاء التقويم والتقدير في جميع المجالات. لأنّ خطر الحريق الإقليمي الأوسع موجود بالفعل. والسؤال هو: إلى أيّ مدى سيزداد الوضع سوءاً؟
لقد طالب معظم قادة العالم وجميع القادة العرب كما رؤساء 18 وكالة تابعة للأمم المتحدة بوقف فوري لإطلاق النار، مدركين خطر حدوث أزمة واسعة النطاق. وربّما تعترف الدول التي تعارض وقف إطلاق النار، إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وعدد قليل من الدول الأخرى، بالمخاطر المحدقة. لكنّها تصرّ على أنّه بعد السابع من أكتوبر، يجب السماح لإسرائيل بالقضاء عسكرياً على حماس، ويجب دعمها في هذا المسعى، على الرغم من التكلفة المتزايدة والمفرطة في أرواح المدنيين.
إنّ عجز إسرائيل عن وضع خطط تفصيلية لما بعد الحرب على غزّة يشير إلى درجة الخلل في التفكير الإسرائيلي. فالتزام القادة الإسرائيليين تدمير حماس يتجاهل حقيقة هذه الحركة
فكرتان للخروج من الحرب
هناك فكرتان مهمّتان يمكنهما إخراجنا من هذه الحرب، سواء على المدى القريب أو على المدى البعيد:
– على المدى القريب، ينبغي النظر إلى تعليق الأعمال العدائية على أنّه نقطة انطلاق تؤدّي إلى وقف دائم لإطلاق النار. حتى الآن رفضت إسرائيل هذه الفكرة. وحتى دعوات الولايات المتحدة إلى هدنة إنسانية محدودة في غزّة، على الرغم من أنّها غير كافية على الإطلاق، سرعان ما رفضها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو.
منذ الأيام الأولى للأزمة، لعبت قطر دور الوساطة في المفاوضات وراء الكواليس مع إسرائيل وحماس والولايات المتحدة للتوصّل إلى اتفاق يحقّق إطلاق سراح الإسرائيليين وغيرهم من المحتجزين في غزّة. في الشهر الماضي، كان الاتفاق على وشك أن يتمّ، وفقاً لمسؤولين في العواصم الثلاث المعنيّة، لإطلاق سراح جميع المدنيين من النساء والأطفال وكبار السنّ والمرضى مقابل وقف الأعمال العدائية لمدّة خمسة أيام للسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزّة. إلّا أنّ إسرائيل رفضت هذا الاتفاق وبدأت اجتياحها البرّي.
من شأن الإفراج عن المحتجزين بموجب اتفاق أن يؤدّي إلى تزايد المطلب الشعبي في إسرائيل بوجوب إعطاء الأولوية للإفراج عن البقية في غزّة. وقد يولّد ذلك، بالتزامن مع وقف محدود زمنياً لوقف إطلاق النار، زخماً دولياً وضغطاً خارجياً على إسرائيل لوقف قصفها لغزّة. وعلى الولايات المتحدة الضغط من أجل تحقيق هذه النتيجة من خلال العمل مع قطر والدول الإقليمية التي تستمع إلى إسرائيل. وزيارة مدير وكالة المخابرات المركزية CIA بيل بيرنز لإسرائيل وقطر تشير إلى استئناف محادثات الإفراج عن الأسرى. وإذا استمرّ نتانياهو في التعنّت، فيمكن إقناع أعضاء آخرين في حكومته الحربية أو ائتلافه الحكومي، وحتى استبداله بقيادة جديدة أو انتقالية تحظى بموافقة الكنيست.
– على المدى البعيد، يهدّد التزام الحكومة الإسرائيلية تدمير حماس بالتحوّل إلى ضالّة منشودة أخرى يتعذّر الحصول عليها. الشيء الوحيد الذي أوضحه بشكل جليّ يوم 7 تشرين الأول هو أنّ إسرائيل لا تستطيع توفير الأمن لمواطنيها من خلال السيطرة على ملايين الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم وحرّياتهم والذين يعيشون تحت وطأة نظام دائم من العنف الممنهج وعدم المساواة. ويجب على من يؤيّد “لا لوقف إطلاق النار” التوقّف عن تشجيع إسرائيل على التمسّك بالوهم الذي فقد مصداقيته تاريخياً بأنّ المقاومة المسلّحة لشعب مضطهد يمكن القضاء عليها من خلال أساليب عسكرية أكثر شراسة.
إنّ عجز إسرائيل عن وضع خطط تفصيلية لما بعد الحرب على غزّة يشير إلى درجة الخلل في التفكير الإسرائيلي. فالتزام القادة الإسرائيليين تدمير حماس يتجاهل حقيقة هذه الحركة. حماس هي جماعة مسلّحة تستخدم الإرهاب، لكنّها أيضاً حركة سياسية فازت في الانتخابات وتحكم قطاع غزّة منذ أكثر من 15 عاماً. كما أنّها تجسّد فكرة أنّ المقاومة جزء من النضال من أجل تحرير فلسطين. حماس ليست تنظيماً عدميّاً خارجياً، على غرار داعش، بل هي مكوّن متأصّل بعمق في نسيج المجتمع الفلسطيني. ومن المؤكّد أنّ شعبيّتها لا تزداد مع التعطّش للدم، بل لأنّ مسارات التحرير الأخرى مغلقة أمام الفلسطينيين.
قد تعتقد الدول التي عارضت وقف إطلاق النار أنّها تشجّع إسرائيل على تحقيق نصر عادل، لكنّ المسار الإسرائيلي الحالي يضمن فقط ديمومة عدم استقرارها
يضاف إلى ذلك أنّ البديل الذي تقدّمه السلطة الفلسطينية، التي تعتمد في استمرارها على التعاون الأمني مع إسرائيل، فقد مصداقيته في نظر معظم الفلسطينيين بسبب ترسيخ وتكثيف الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك زيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين في الضفة الغربية إلى أكثر من أربعة أضعاف منذ بدء عملية أوسلو. لم يعد بإمكان الفلسطينيين تجنّب التعامل مع تآكل شرعية قيادتهم، التي تفتقر إلى المصداقية والتمثيل والاستراتيجية اللازمة لتحقيق الحرّية.
تحتاج منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية المنبثقة عنها، إلى إعادة البناء والتوسّع لزيادة شمولهما، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تمثيل حماس في منظمة التحرير. تشكّل إعادة بناء الهياكل السياسية الوطنية الفلسطينية عنصراً حاسماً لدفع الحلّ الأشمل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعد هذه الحرب.
حلم بعيد المنال؟
قد يبدو ذلك وكأنّه حلم بعيد المنال. فكيف نتوقّع من إسرائيل أن تتعامل، ولو بشكل غير مباشر، مع هيئة سياسية تتمثّل فيها حماس؟
الحقيقة الصعبة هي أنّ هذا هو بالضبط ما يعنيه التعامل مع هذا الصراع القبيح والعنيف والطويل الأمد. هناك سبيل لتحقيق الأمن الإسرائيلي، وهو يقتضي توفير الأمن والحقوق للفلسطينيين. لقد تحدّثت الحكومات الإسرائيلية السابقة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت محظورة ذات يوم. وسيتعيّن على أيّ حكومة مستقبلية جادّة في إيجاد حلّ أن تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها وتمثيل حماس فيها.
قد تعتقد الدول التي عارضت وقف إطلاق النار أنّها تشجّع إسرائيل على تحقيق نصر عادل، لكنّ المسار الإسرائيلي الحالي يضمن فقط ديمومة عدم استقرارها. حماس لا تمثّل التهديد الوجودي الذي تظنّه إسرائيل، لكنّ تجاوزات إسرائيل وتطرّفها قد يمثّلان ذلك التهديد. لقد قيل مرّات عديدة إنّ ما تحتاج إليه إسرائيل من أصدقائها ومؤيّديها هو أن يتمّ إبعادها عن الهاوية. غير أنّ أميركا، من خلال ضمان إفلات إسرائيل من العقاب ورفضها تقديم استجابة ذات مغزى لمعاناة الفلسطينيين، خيّبت آمال الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء.
إقرأ أيضاً: دانيال كيرتز لنتانياهو: احتراماً لك، حان الوقت لكي تتنحّى
قد يشكّل 7 تشرين الأول وما يليه حافزاً لما لم يكن من الممكن تصوّره من قبل، سواء للأفضل أو للأسوأ.
إنّ طريق الخروج من جحيم عدمية “نحن أو هم” يبدأ بإضفاء الطابع الإنساني على الآخر. وربّما هذا هو الطريق الذي يقودنا في النهاية إلى حلّ الدولتين. فقد يكون نموذج التقسيم جزءاً من المشكلة، لتشجيعه الانفصال وفكرة ضرورة وجود الجدران بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لا توجد حلول سريعة أو سهلة. ولكن إذا ولدت كوابيسنا من الفشل في توقّع ومنع فظائع 7 تشرين الأول وكلّ يوم تلاه، فربّما علينا أن نحرّر خيالنا السياسي لإرساء الأسس لمستقبل من الحياة والأمل.
*دانيال ليفي: هو مفاوض السلام الإسرائيلي السابق مع الفلسطينيين في قمّة طابا خلال عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهودا باراك وخلال مفاوضات اتفاقيات أوسلو في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين. وهو رئيس “مشروع الشرق الأوسط” التابع لـ”مؤسسة أميركا الجديدة” في واشنطن العاصمة. وكان مديراً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”، ومحلّلاً لـ”برنامج الشرق الأوسط” التابع لـ”مجموعة الأزمات الدولية”.
لقراءة النصّ الأصلي: إضغط هنا