القرار الدولي بإذلال الطبقة السياسية اللبنانية، بكامل مكوّناتها، والتي تشكل ما أسميه “نظام حزب الله”، ماضٍ بلا أيّ تردّد. آخر محطات مسلسل الإذلال العلنية كانت مؤتمر دعم الشعب اللبناني الذي نظمته فرنسا، وما تخلّله من تقريع غير مسبوق لطبقة فاسدة وعاجزة في الوقت نفسه.
تعمّدت الرئاسة الفرنسية الوضوح الشديد في قولها إنّ قوى “نظام حزب الله”، مجتمعة، “لم تنفذ أيّ إجراءات بموجب خارطة الطريق الفرنسية المقترحة لمساعدة لبنان على حل أزمته السياسية والاقتصادية”، مشدّدة على أنه لن يتم تقديم دعم مالي دولي للبنان “حتّى تشكيل حكومة”. بيان الرئاسة الفرنسية، الذي ينطوي على مضبطة اتهام شبه تفصيلية، ودفتر شروط إصلاحي ببنود واضحة ومباشرة، تابع بالقول: “تحتاج إلى الثقة من أجل اقتراض أو إقراض المال، والثقة ليست موجودة.. سنظلّ هكذا ما دامت لا توجد حكومة ذات مصداقية”.
تزامن الكلام الفرنسي مع تقرير للبنك الدولي برزت فيه لغة اتهامية مباشرة، غير مضبوط بقواعد الأرقام والبيانات الباردة. فقد حذر البنك الدولي من الانهيار الاقتصادي غير المسبوق في لبنان، منبّهاً إلى “كساد طويل الأمد ناتج عن غياب متعمّد للإجراءات السياسية الفعالة”.. ما يعني أنّ الكساد اللبناني متعمّد، ووليد موضوعي لسياسات محدّدة قامت أم لم تقم بها جهات سياسية محدّدة.
القرار الدولي بإذلال الطبقة السياسية اللبنانية، بكامل مكوّناتها، والتي تشكل ما أسميه “نظام حزب الله”، ماضٍ بلا أيّ تردّد. آخر محطات مسلسل الإذلال العلنية كانت مؤتمر دعم الشعب اللبناني الذي نظمته فرنسا، وما تخلّله من تقريع غير مسبوق لطبقة فاسدة وعاجزة في الوقت نفسه
ما نحن أمامه يشكّل وصاية غير مسبوقة، مسنودة من مناخ شعبي لبناني متقدّم في عنفه ضدّ الطبقة السياسية على عنف الوصي الدولي. لعلّ أكثر ما يعبر عن البيئة الحاضنة لوصاية الإذلال هذه، هي نتائج الانتخابات الطالبية في عدد من الجامعات الخاصة الرئيسية، التي أفضت الى هزائم كبيرة ولو متفاوتة لأحزاب السلطة السياسية، لا سيما في الجامعتين الأميركية، واليسوعية، أي الصرحين اللذين ولد حولهما وحول نخبهما الكيان اللبناني..
أهمية هذه النتائج الكاسحة لا تكمن في ماهية الخطاب السياسي الذي تملكه أو لا تملكه المجموعات الطلابية المستقلة، بل في أنّ انتصاراتها قامت على تضادّ كامل مع فكرة وجود أحزاب السلطة كلها، وجاءت كأنّها إمتداد موضوعي لمسلسل المهانة والإذلال الذي تعتمده قوى دولية وازنة تجاه قوي “نظام حزب الله”.
حتّى فكرة العلمانية التي خيضت على أساسها الانتخابات، لا توزن هنا بميزان الطرح العقائدي بمقدار ما هي ردة فعل عملية على الاستخدام السافل لفكرة التعددية اللبنانية من قبل أحزاب السلطة بغية تأبيد هيمنتها على مصالح المواطنين وتمتين العلاقة الزبائنية بينهم وبين دولة تديرها الميليشيا.
من هنا جاءت دعوت الرئاسة الفرنسية لمجموعة من ممثلي المجتمع اللبناني للتحدّث أمام المشاركين في مؤتمر الدعم للبنان، كرسالة تتجاوز الحجة – الفخّ بأن لا مستقلين في لبنان ولا مجتمع مدني مدرك لحقائق الاجتماع السياسي اللبناني أو ممن يملكون فهماً واقعياً للمشاكل وللحلول لها. نخبة محترمة هي النقيض الموضوعي للنخبة السياسية المُهانة، مثل إليسيا نادر من “بيت البركة” وملك خيام من “عامل” وسمر أبو جودة من الصليب الأحمر أو الباحث سامي عطالله من “المركز اللبناني للدراسات السياسية”، وأيمن مهنّا مدير “مؤسسة سمير قصير” وآخرين!
حتّى فكرة العلمانية التي خيضت على أساسها الانتخابات، لا توزن هنا بميزان الطرح العقائدي بمقدار ما هي ردة فعل عملية على الاستخدام السافل لفكرة التعددية اللبنانية من قبل أحزاب السلطة بغية تأبيد هيمنتها على مصالح المواطنين وتمتين العلاقة الزبائنية بينهم وبين دولة تديرها الميليشيا
تدرك النخبة الحاكمة ومكوّنات الدولة العميقة لما أسمّيه “نظام حزب الله” أنّها لا تزال تملك الكثير من عناصر القوّة في مواجهة الانتفاضة الاجتماعية السياسية للبنانيين. أبرز هذه العناصر، قدرتها على الإفقار المتعمد للبنانيين ودفع نخبهم للهجرة بغية تجفيف الواقع السياسي من العناصر الناشطة والمنكّدة على تحالف “المافيا والميليشيا”.
فها هو مؤشر مؤسسة غالوب Gallup للسعادة، ينبئنا أنّ منسوب الحزن والغضب تضاعف في لبنان عام 2019 عما كانه عام 2018، ليكون لبنان الدولة الأولى في العالم التي تشهد مثل هذا الارتفاع في التجارب السلبية.
وتفيد الدراسة بأنّ البالغين اللبنانيين عانوا من الكدمات العاطفية أكثر مما عانى أي شعب في العالم بين عامي 2018 و 2019. وهو رقم يكشف مستوى توحّش النخبة السياسية الراهنة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن لا براميل متفجّرة تسقط على رؤوس اللبنانيين ولا عمليات تهجير ونزوح قسري يتعرّض لها السكان. وبذلك تكون النخبة السياسية قد تفوّقت بوحشيتها على نظام بشار الأسد، أو عنف الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة في العالم!!
بيد أنّه وعلى الرغم من هذه البيانات القاتمة، والإدراك الواقعي لمستوى توحّش السلطة السياسية الذي تعبّر عنه مناكفات التحاصص الرخيصة حول تشكيل الحكومة المقبلة، والإهمال المتعمّد لخطط الإنقاذ الممكنة لمستقبل لبنان واللبنانيين، تتزايد الإشارت على رعب “نظام حزب الله” من إصرار المجتمع الدولي على “تغيير هذا النظام”.
إقرأ أيضاً: لماذا ترك الخليج لبنان؟ الجواب عند الكاظمي!
لقد نطق حاكم مصرف لبنان بلسان هذا الرعب في مقابلته الأخيرة، عبر قناة “الحدث” السعودية، متحدثًا بمستوىً غير مسبوق من الوقاحة عن العملة الوطنية وأولوية التعاطي بها كأي بلد في العالم، بعد إشرافه الشخصي والمباشر على أكثر من ثلاثة عقود من دولرة الإقتصاد اللبناني..
بدا سلامة عارياً من الحجج إلا من نبرة “شعبوية وطنجية” لم يُعرف أنّه لجأ إليها يومًا، بعد أيام فقط من تحقيق خطير في صحيفة “وول ستريت جورنال” يتهمه بمحاباة حزب الله ومساعدته على تجاوز العقوبات الأميركية عليه.
الصورة الهزيلة لرياض سلامة في تلك المقابلة هي صورة كامل “نظام حزب الله” الذي يتّخذ شكل التحالف بين المافيا والميليشيا، بهزاله ووقاحته وإصراره على تدمير ما بقي من فسحة أمل للبنانيين.