محمّد بن سلمان: ثورة حتى “العصر” الحديث..

مدة القراءة 16 د

حدّد ابن خلدون في الباب الثاني من مقدّمته الشهيرة أعمار الدول بأربعةِ أجيال، يكون عمرُ كلّ واحدٍ منها أربعين عاماً (وفق متوسّط الأعمار في زمنه). الجيلُ الأوَّل هو “باني المجد”، والثاني هو “المُباشر لأبيه”، أي الذي سمع منه عن المجد، لكنّه قصّر تقصيرَ السامع بالشيء عن المُعاني له، والثالث هو “المُقصّر عن الثاني تقصير المُقلّد عن المُجتهد”، وأمَّا الرابع فهو الذي يُخالِف نهجَ أسلافه ويقلبه رأساً على عقب، ومعه تتلاشى الدولة.

كان الملك عبد العزيز آل سعود قد أعلن في عام 1932 كلَّ المناطق التي نجح في توحيدها تحت اسم “المملكة العربيّة السعوديّة”، فكانت العروبة ثانية صفاتِ اسمها، وبعد ذلك بثلاث سنوات وُلد ابنُه الخامس والعشرون الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز من زوجته حصّة بنت أحمد السُديريّ، وبعد خمسين عاماً على ولادته، وُلد نجلُه محمّد الذي صار لاحقاً وليّاً لعهده ووزيراً للدفاع ثم نائباً فرئيساً لمجلس الوزراء.

 

محمد بن سلمان ينقذ السعودية

إذا ما اعتمدنا على نظريّة ابن خلدون (التي صحّت في دول وأخفقت في أخرى)، فإنَّ الأمير محمَّد يُمثّل الجيلَ الثالثَ في المملكة. لكنَّ وليّ العهد السعودي أدركَ في لحظةٍ مفصليّة من تاريخ المملكة والإقليم والعالم أنّه لا بُدّ من إحداثِ تغيير جذريّ في المجتمع، وفي الممارسات الدينيّة، والمناهج التربويّة، ودور المرأة، والمرتكزات الاقتصادية-النفطيّة، وكذلك في مجالات الثقافة والفنّ، فذهب أبعدَ بكثيرٍ ممَّا انتظر البعض، وأقدمَ حيث أحجمَ أسلافُه، مُتفادياً بذلك الوصولَ إلى الجيل الرابع، ومُجنّباً المملكة رياحَ ربيعٍ كانت تعصف هوجاءَ في كلّ اتجاه.

وجدت السُعُودية نفسها وسط بؤر نارٍ مُشتعلة ومُهدّدة. فأدرك الأمير محمّد أنّ بعضَ هذه الحروب ستوسّع المجالَ الإيرانيّ وتزيد الطوقَ على المملكة

اختارت الكاتبة والإعلاميّة الفرنسيّة الأشهر على شاشاتِ بلادها كريستين أوكرنت (زوجة وزير الخارجيّة السابق برنار كوشنير) لكتابها عن محمد بن سلمان، جملةً من مقدّمة ابن خلدون تقول: “إذا لم تُصلحْ مملكةٌ شأنَها بعد ثلاثةِ أجيالٍ، فستكون أمام خطر الزوال”، وأضافت مقولةً أخرى لوليم شكسبير تقول: “حكيمٌ هو الأبُ الذي يعرفُ ابنه”.

تشرح أوكرنت في مؤلّفِها الحامل عنوان “Le prince mystère de l’Arabie” (الأمير الغامض للعربية السعودية) أنَّ “النجاحَ الأوّل لوليّ العهد يكمُن في تأسيسِ هُويّةٍ وطنيّةٍ، فهو راهن على الشباب في مُجتمع يُشكّل الذين تقلُّ أعمارُهم عن 30 عاماً نحو 70% من سُكّانه، وبات جيلُ الشباب حليفَه الذي يفخر به وبسعيه إلى التحديث كي يُصبحَ جُزءاً من الثقافة الكونيّة من دون المساس بمبادئ العرش المُطلق”.

هذا ما يؤكّده أيضاً كتاب “تدمير العالم العربي-وثائق الغرف السوداء“، الذي صدر قبل أيام قليلة بتوقيع الزميل سامي كليب، ونقرأ فيه: “لم يتوقّع أحدٌ أن تأتي بذور ثورة التغيير المجتمعيّ والدينيّ من القيادة السعودية. ذلك أنّه خلافاً للدول التي عاشت ما عُرف بـ”الربيع العربيّ” والتي اندلعت ثوراتُها من الناس ثمّ انضمَّت إليهم الجيوش، أي أنَّها اندلعت أفُقيّاً، فإنَّ التغييرَ الجذري في السعودية جاء عموديّاً وذلك من خلال خطّةِ وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان، التي تخطّت كلَّ التوقّعات في توسيع هامش الحضور النسائيّ، وفتح أبواب السعوديّة للحداثة الثقافية والفنّية، ووصلت إلى حدٍّ غيرِ مسبوقٍ في سياق إعادة النظر في جوهر السمة الوهّابية للدولة والمجتمع، وفي التأسيس لرؤيةٍ اقتصاديّة لا تعتمد فقط على النفط كمصدرٍ وحيدٍ للثروة، بل تذهب باتّجاه آفاق اقتصاديّة وتكنولوجيّة (مشروع نيوم) واسعة، ناهيك طبعاً عن رفعِ مستوى التحدّي للولايات المتحدة الأميركية منذ انتخابِ الرئيس الديمقراطي جو بايدن خلفاً لدونالد ترامب”.

ثورةٌ تنمو وأخرى تشيخ

كان لافتاً هذا العام مستوى التناقض الصارخ بين ثورةِ إصلاحٍ تتقدّم في المملكة يدعمُها جيلُ الشباب، وبين حاجةٍ إلى إصلاحٍ ثورةٍ في الجوار الإيرانيّ هَرِمت وفقدت مقوّماتِها فانتفضَ ضدّها جيلُ الشباب الإيرانيّ قبل أن تبلغَ جيلَها الرابع وفق نظريّة ابن خلدون. هذا التناقض جعلَ بعضَ المعلّقين يُشيرون إلى عدوى انفتاحٍ سعودي تلفحُ المجتمعَ الإيراني التوّاق، كما كان نظيرُه السعوديّ قبلَه، إلى الانفتاح ومجاراة لغة العصر الذي كرّست فيه وسائل التواصل الاجتماعيّ (المقموعة حاليّاً في إيران) مفاهيمَ جديدة ومغايرة تماماً لما كان قائماً قبل عقدين.

 

ثورةُ الأمير

لم تكُن المؤشّرات الأميركيّة الأولى بُعَيد تولّي الأمير محمد بن سلمان منصبَه، توحي بتأييدٍ أميركي. راحت الصُحف آنذاك تُركّز على شابٍّ لا يمتلك الخبرة، ولا يتحدّث الإنكليزيّة، وبعيدٍ عن الأضواء، وانفعالي وسريع الغضب.

وحين جارت الرياحُ الأميركيّة سُفُنَ إيران والاتّفاق النوويّ معها، قال الرئيس السابق باراك أوباما في حوار مع المجلّة الأميركيّة The Atlantic: “علينا أن نقولَ لأصدقائنا كما للإيرانيّين، إنّ عليهم أن يجدوا وسيلةً أكثرَ فعاليّة للعيش في حُسنِ الجوار، وإقامةِ نوع من السلام البارد بينهم”. وهو كان قد أقلقَ الكثيرَ من الدول العربيّة الحليفة لواشنطن، في خطابه الغريب في جامعة القاهرة عام 2009 حين راح يفرشُ البسطَ الحُمرَ أمام الإخوان المسلمين ويركّز على ضرورة التغيير والانفتاح على الديمقراطيّة ويشدّد على أهميّة المسلمين من دون ذكر العرب.

ما يحصُل اليومَ في الداخل الإيرانيّ من انتفاضةٍ حقيقيّة ربّما يؤكّد بعضاً من نظرة وليّ العهد السعوديّ في ما يتعلّق  بانتقال المشكلة إلى قلب إيران

كظمت المملكةُ غيظَها وسط سيلٍ من المعلوماتِ عن تغييرات جذريّة في السياسة الأميركيّة حيال إيران، وما إن انتُخبَ دونالد ترامب رئيساً في أيار 2017، حتّى فتحت له السُعُوديّةُ أبوابَها واسعة، فدخلَ منها برفقه صهره جاريد كوشنير وابنته إيفانكا وزوجته ميلانيا ومجموعة كبيرة من رجال الأعمال.

حين أصبح الأمير محمد بن سلمان في 23 كانون الثاني من عام 2015 سابعَ وزير للدفاع في المملكة، كان “الربيعُ العربيّ” قد دخل عامه الخامس، والولايات المتحدة الأميركيّة التي تخلّت عن حليفَيْها التونسيّ زين العابدين بن علي والمصريّ حُسني مُبارك، راحت تُباركُ الثورات التي أسقطت أيضاً الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، وتُربّتُ على أكتافِ الإخوان المُسلمين، وتنخرط بالاتفاق النوويّ مع إيران. وكان رجب طيّب إردوغان قد فاز قبل أشهر بالرئاسة التركيّة، وهو أوّل رئيسٍ تُركيّ يفوز بالاقتراع المُباشر. وذلك فيما سوريا تغرق في حربِها، والجيش الروسيّ يُرسلُ قواتِه (2015) إلى قلب دمشق بعد الانخراط العسكريّ المُباشر لإيران وحزب الله. أمّا العراق فكان يشهد توغُّلاً تُركيّاً، وتمدُّداً لتنظيم داعش الذي راح ينشرُ إرهابَه من العراق وسوريا إلى ليبيا وسيناء المصريّة وغيرهما. وفي اليمن كانت قوَّات الحوثيّين والجيش الموالي لصالح يتقدَّمون صوب عدن وتعز ومأرب.

وجدت السُعُودية نفسها وسط بؤر نارٍ مُشتعلة ومُهدّدة. فأدرك الأمير محمّد أنّ بعضَ هذه الحروب ستوسّع المجالَ الإيرانيّ وتزيد الطوقَ على المملكة. هذا ما دفَعه، وفق ما يروي مسؤولٌ أمميّ سابق كان في عداد وفد المبعوث الدولي إلى اليمن، إلى الانخراط مُباشرة في الحرب في البلد المجاور الذي تعتبرُه الرياض العمقَ الاستراتيجيّ لأمن المملكة. قال مسؤول أمنيّ سعوديّ كبير آنذاك لمساعد المبعوث الدولي: “إنّ اليمن سيكون ساحةَ ليّ ذراع إيران ووقف تمدّدها”، وذلك في أثناء محاولة التفاوض لتسهيل الحوار بين الرياض والحوثيّين.

 

صورة الأمير

جاء الانخراطُ السعوديّ في تلك الحرب متزامناً مع إعجابٍ غربيّ بالأمير محمّد بدأ يزداد. ففي مقالٍ فرنسي نُشر في 9 نيسان 2018، قالت صحيفة “لوموند” تعقيباً على زيارة الأمير محمّد للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا: “في ربيع عام 2016، كشف الشابّ الطموح (بن سلمان) عن خطّته التي حملت اسم “رؤية 2030″. إنَّ خطّة الإصلاح هذه تطمح إلى وقفِ ارتباط السعودية بالذهب الأسود (النفط)، وتضييق هيمنة رجال الدين على المُجتمع، فراح أصحاب الياقات البيض والليبراليون يصفّقون له، وصار الدبلوماسيون الغربيّون يفركون عيونهم غيرَ مصدّقين، والوزراء التكنوقراطيون ينضوون تحت كنف محمّد بن سلمان”.

الواقع أنّ الأمير الشاب أراد تحريكَ الجمود القاتل في ملفّات كانت تُعتبرُ مُحرّمات، لا يجرؤ أحدٌ على الحديث عنها، لكنّها بقيت تراوح مكانها، ومنها قضايا الوهّابية، والصراع العربي الإسرائيليّ، والانفتاح الدينيّ، ومعظم المجالات الثقافية والفنيّة والتربويّة.

 

الدين بين تشجيع الاعتدال وقمع التطرّف

بعدما قال الأمير محمد في منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار في السعودية في عام 2017”: “لن نضيّع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرّفة، سوف ندمّرهم اليوم وفوراً”، وكان طبعاً يتحدّث عن المتطرّفين والمغالين في الدين، وكرّر ذلك في مقابلة شهيرة مع “أتلانتيك” قال فيها: “إنَّ التطرُّف في كلّ شيء غير جائزٍ، والرسولَ صلّى الله عليه وسلّم تكلَّم في أحد الأحاديث أنّ يوماً من الأيام سوف يخرج من يتطرّف وإذا خرجوا اقتلوهم”.

كان لافتاً أنْ يقول الأمير الشابّ للمجلّة الأميركية نفسها قبل فترة قصيرة: “إنّ الدين الإسلامي يحثّ الناس على احترام الديانات والثقافات أيّاً كانت. وإنَّ المملكة تحوي سُنّة وشيعة بمختلف مذاهبهم، ولا يوجد احتكارٌ للرأيّ الدينيّ. وإنَّ الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب هو “كسائر الدعاة وليس رسولاً، بل كان داعية فقط، ومن ضمن العديد مِمَّن عملوا من السياسيّين والعسكريّين في الدولة السعوديّة الأولى”.

أضاف بجرأة لم يسبقه إليها أحد أنَّ “المشكلة في الجزيرة العربية كانت آنذاك أنَّ الناس الذين كانوا قادرين على القراءة أو الكتابة هم فقط طلّابُ محمّد بن عبد الوهّاب، فتمَّت كتابة التاريخ بمنظورهم، وقد أُسيء استخدام ذلك من متطرّفين عديدين. إنَّني واثقٌ بأنّه لو أنَّ الشيخ محمّد بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن باز ومشايخ آخرين موجودون الآن، فسيكونون من أوَّل الناس المحاربين لهذه الجماعات المتطرّفة الإرهابيّة، والحقيقة في الأمر هي أنَّ تنظيم داعش لا يستخدم شخصيّة دينيّة سعوديّة كمثال يتبعه، لكن عندما تموت هذه الشخصيّة يبدأ عناصر داعش بعد ذلك باقتطاع كلماتهم من سياقها، من دون النظر إلى ظروف الزمان والمكان التي صدرت في خلالها.”

لم يكتفِ الأمير بالتصريح، بل سُرعانَ ما نقلَ جُلّ أفكارِه إلى أرض الواقع. ففي حين لم يكُن دارجاً مُطلقاً أن يرى السعوديّون على أرضهم البطريرك اللُبنانيّ بصليبه الكبير يجول في المملكة مع مسؤول كبير، كسر الأمير محمّد القاعدة واستقبل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عام 2017، وكذلك الكاردينال توران أحد أبرز المستشارين الدبلوماسيين لبابا الفاتيكان، مؤكّداً أنّ تلاقي الأديان يقمع الإرهاب والتطرّف، وأنّ المملكة تفتح صدرها للجميع.

وهو ذهب في مقابلته الشهيرة مع جيفري غولدبرغ لمجلة “أتلانتيك” في نيسان 2018 إلى حدّ القول: “أعتقدُ أنّ لكلّ شعبٍ الحقَّ في العيش بسلام، وأنّ للفلسطينيّين والإسرائيليّين الحقَّ بأرضٍ لهم”، مضيفاً: “ليس لبلادنا مشكلةٌ مع اليهود، فنبيُّنا مُحمّد تزوّج يهوديّة وكان لديه جيرانٌ يهود. واليوم تجدون الكثيرَ من اليهود في السُعُوديّة جاؤونا من أميركا وأوروبا، ولا توجد مشكلةٌ عندنا بين المسيحيّين والمُسلمين واليهود”.

لم يعِش محمّد بن سلمان الحروب العربيّة الإسرائيليّة الكُبرى (1967 و1973 والاجتياح الإسرائيلي للُبنان 1982)، فهو وُلد في صيف عام 1985، لكنّه أدركَ عُقمَ الشعارات التي كُلّما ازداد عددُها بلا فعلٍ موازٍ، تقلّصت فلسطين أكثر. ذهب في آذار 2018 لملاقاة المنظّمات اليهوديّة الأميركيّة في نيويورك، وتحاور مع رئيس اتّحاد الإصلاح اليهودي الحاخام ويرنيك وزعيم التيار المُحافظ وممثّل عن اليهود المتشدّدين. تقول الكاتبة كريستين أوكرنت إنَّ وليّ العهد أمضى ليالي طوالاً مع جاريد كوشنر لصياغة مشروعٍ جديد وفعّال للسلام.

ليست كلّ هذه الخطوات الانفتاحيّة على الأديان أمراً عابراً، فالأمير يُدرك بعمق أن لا سبيل لتطوّر المنطقة وبناء مشاريع اقتصاديّة وتنمويّة كُبرى فيها، إذا استمرَّت عوامل الكراهية والحقد والحروب. وهو بذلك يُريد أن تُصبح المملكة، التي هي أحد أبرز مقاصد المُسلمين في العالم، ساحة للتلاقي والحوار بين الأديان لا التنافر والصراع.

 

سياسة خارجيّة أكثر توازناً وجرأة

استند الأمير محمّد بن سلمان في سياسته الخارجيّة إلى سُلّم لافت من الأولويّات، فتحدّث بدايةً عن “مثلّث الشرّ” الذي اعتبر أنّ النظام الإيراني والإرهاب والإخوان المسلمين هم أركانُه، وعزّز الانفتاح على العالم العربي وإفريقيا، وسعى إلى توسيع قاعدة التبادل مع الصين وروسيا من دون رغبة في قطع العلاقة مع أميركا وأوروبا.

 

إيران الجارُ الجشع

ذهب الأمير محمّد في الموضوع الإيراني إلى حيثُ لم يذهبْ أحدٌ قبلَه، فقال في حديث للزميل داوود الشريان في عام 2017: “لا يُلدغ المرء من جحر مرَّتين، لقد لُدغنا من إيران مرَّة، المرَّة الثانية لن نُلدغ. ونعرف أنّنا هدفٌ رئيسي للنظام الإيرانيّ. وإنَّ الوصول لقبلة المسلمين هدفٌ رئيسي لإيران، ولذلك نحن لن ننتظر حتّى تصبحَ المعركة في السعوديّة، بل سنعمل لكي تكون المعركة عندهم في إيران وليس في بلادنا”. وتساءل: “كيف أتفاهم مع واحد أو نظام لديه قناعة راسخة بأنّه نظامٌ قائمٌ على أيديولوجية متطرّفة منصوص عليها في دستوره ومنصوص عليها في وصيّة الخمينيّ بأنّه يجب أنْ يسيطروا على مسلمي العالم الإسلاميّ ونشر المذهب الجعفريّ الاثني عشريّ الخاصّ بهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتّى يظهر المهديّ الذي ينتظرونه. هذا كيف أقنعه؟ وما مصالحي معه؟ وكيف أتفاهم معه؟”.

هذا لم يمنع الأمير محمد من محاورةِ إيران لاحقاً في العراق ولخمس جولاتٍ متتالية، من دون أن يتخلّى مرّة واحدة عن الشعار الأهمّ، وهو وقف التدخّل الإيرانيّ في الشؤون الداخليّة للوطن العربيّ.

ما يحصُل اليومَ في الداخل الإيرانيّ من انتفاضةٍ حقيقيّة ربّما يؤكّد بعضاً من نظرة وليّ العهد السعوديّ في ما يتعلّق  بانتقال المشكلة إلى قلب إيران التي تغلي برغبة الجيل الجديد فيها بالانفتاح والانعتاق.

لا رغبةَ عند السعوديّة بالتخلّي عن الحليف الأميركيّ، لكنَّ الأمير محمّد ذكّر إدارة بايدن أكثر من مرّة بفضل السعودية على الولايات المتحدة الأميركيّة، وجاهر برفض أيّ تدخّل في شؤون بلاده

الصين شريكٌ حقيقيّ

كان الملك سلمان بن عبد العزيز استشرافيّاً بامتياز حين قام بجولته الشهيرة في آسيا في عام 2014 وكان ما زال وليّاً للعهد، فقال من قلب بكين آنذاك: “المملكة العربيّة السعوديّة تُقدّر مواقفَ جمهوريّة الصين الشعبيّة الإيجابيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة، ونتطلّع إلى أنْ تقوم الصين بصفتها قطباً دولياً ذا ثقل سياسيّ واقتصاديّ كبير بدور بارز لتحقيق السلام والأمن في المنطقة”، منوّهاً بتنامي التبادل التجاري بصورة مطّردة حتّى شارف اليوم على نحو 100 مليار دولار سنويّاً.

لا رغبةَ عند السعوديّة بالتخلّي عن الحليف الأميركيّ، لكنَّ الأمير محمّد ذكّر إدارة بايدن أكثر من مرّة بفضل السعودية على الولايات المتحدة الأميركيّة، وجاهر برفض أيّ تدخّل في شؤون بلاده. وقال بوضوحٍ أكثر إنّ “الولايات المتحدة لن تكون دولة منتجة للنفط بعد 10 سنوات، وسيكون على عاتق السعوديّة لاحقاً في المستقبل زيادة إنتاجها لتلبية الطلب على النفط”، مُشيراً إلى أنّ النفط السعوديَّ هو الذي عزّز المكانة الاقتصاديّة لأميركا، ولو أنَّ العقود أُعطيت لبريطانيا تاريخيّاً لما كانت أميركا على هذا النحو.

يكفي أن نُلقي نظرةً خاطفةً على البيان الختاميّ للقمّة السعودية الصينيّة التي عُقدت قبل أسابيع في الرياض، لإدراك حجم التطوّر الهائل في العلاقات البينيّة والمرتكزة على المواءمة بين مشروعَيْ رؤية السعودية 2030 ومبادرة الحزام والطريق. وكانت الصين قد ترجمت إلى الصينيّة الرؤية السعودية لهذه الغاية. فعدد الاتفاقيات فاق التوقّعات في كلّ المجالات، ومن المنتظر أن تكون الصين بحلول سنة 2030، أكبر سوق للصادرات النفطيّة الخليجية، متجاوزة الولايات المتحدة الأميركية واليابان.

لو أضفنا إلى ذلك الجرأة العالية في الموقف السعودي-الإماراتي من الحرب الأوكرانية في مجلس الأمن فور اندلاع المعارك حين رفض البلدان إدانةَ شريكهما الروسيّ، لأدركنا أنَّ الرياض تُريد أن تُثبتَ لواشنطن أنَّ ثمّةَ صفحةً قد طُويت، ولا بُدّ من كتابة صفحة جديدة على قواعد جديدة وبحبرِ الصداقة والندّيّة لا التبعيّة، وإلّا فالبدائل ممُكنة وفق ما قال المحلّل السعودي عبد العزيز صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث مؤكّداً أنّ “الدول العربية تريد إبلاغ الحلفاء الغربيين أنَّ لديها بدائلَ وأنَّ علاقاتهم تستند في المقام الأوَّل إلى المصالح الاقتصادية”.

وسّع الأمير محمّد طموح دبلوماسيّته الخارجيّة ليس فقط صوب الصين وروسيا، ولا صوب العرب فحسب، وإنّما أيضاً باتجاه إفريقيا، فساهم في التقارب المصريّ الإثيوبيّ بعد الصراع الذي كاد يتحوّل إلى حرب بشأن مياه النيل، واستضاف المصالحة بين رئيسَيْ وزراء إثيوبيا وإريتريا، واشترى مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا في سياق ضمان الأمن الغذائي للمملكة، ونشّط دبلوماسيّتَه صوب القارّة السمراء.
قد يكون مُبكراً التقويم النهائيّ للتجربة السعوديّة حتّى الآن، ولا شكَّ في أنّ الخضّات الخارجيّة الكُبرى في بعض الملفّات، وخصوصاً في الحرب اليمنيّة أو قضيّة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، أو قبلهما الحرب السوريّة، أو القطيعة الخليجيّة مع قطر وتلاعب أميركا وبعض الغرب بهذه القطيعة، أمورٌ حجبت الكثير من التطوّرات والتحوّلات المفصليّة التي حصلت في السعوديّة، لكنَّ الأكيد أنَّ خطوات الأمير محمّد حيال الانفتاح المجتمعيّ والتحوّلات الدينيّة وشؤون المرأة والبدائل الاقتصاديّة والتكنولوجيّة، أحدثت ما يُشبه الثورةَ من فوق، خصوصاً أنَّ قرناً كاملاً مرّ، وشهد محاولاتٍ خجولةً لبعض الانفتاح (خصوصاً في عهد الملك عبدالله)، لكنَّ أحداً لم يتوقّع أنْ يأتي أميرٌ شابّ، ويغيّر المعادلةَ بسنواتٍ قليلة، ويُحدث التحوّل الأكبر في تاريخ المملكة اجتماعيّاً ودينيّاً، وربّما لاحقاً في مجالات كُبرى واعدة. فالملك عبدالله نفسُه شرح للكاتب البريطاني روبرت لايسي في كتابه “من داخل المملكة” صعوبة إجراء تحوّلات مفصليّة في بنية وفكر المجتمع.

إقرأ أيضاً: عمرو موسى لـ”أساس”: معظم السياسيين اللبنانيين فشلوا والخلاف مع إيران عمره ألف عام

إنّها حتماً ثورةٌ لا تُشبه أيّ ثورة أخرى، وسيناقضُ الأمير محمّد تماماً نظريّة ابن خلدون بأنّ الجيل الثالث في الدول يُمهّد لجيل رابع يُنهي الدولة. قد تكون السُعودية حاليّاً أمامَ مرحلةِ التأسيس لعصرٍ جديد إذا ما أكمل الأميرُ طريقَه صوب العرش. فالمتربّصون بالإصلاح والانفتاح والحداثة ما زالوا يحملون الخناجر.

مواضيع ذات صلة

شينكر لـ”أساس”: الحزب قد “يَقتُل”.. عون هو الرئيس وبايدن أساء للسعودية

حاضر دائماً في التفاصيل اللبنانية. داخل الادارة الاميركية أو خارجها يبقى فاعلاً ومؤثراً إنّه ديفيد شينكر المُساعد السّابق لوزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى. يعرفُ…

عام المرأة الإيرانية… ثورة نساء إيران: من الخميني إلى أدونيس والأسد

في نهاية عام 2022 يكون قد مرّ أكثر من مئة يوم على ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” المستمرّة في إيران. صحف، مجلّات، ومواقع صحافية إلكترونية عالمية…

فرنسا 2022: الفشل الكبير في “لبنان الكبير”

الفشل الفرنسي الكبير هو في “لبنان الكبير”. وهو فشل ملازم للسياسات الفرنسيّة منذ سنوات. فهي لا تحمل العصا، ولا تملك الجزرة. لنبدأ من الآخر. 1-…

رحلة الدولار مستمرّة صعوداً: 75 ألفاً نهاية 2023؟

تُظهر العودة إلى أرقام سعر الصرف في السنوات الثلاث المنصرمة أنّ الدولار كان يقفز كلّ سنة بين 17 و20 ألفاً، وهذا يعني أنّ وصول الدولار…