هي مؤسسة وقفية اجتماعية لكن ليست كغيرها من المؤسسات. وهو رجل وطني، لكن بالمعنى غير التقليدي للوطنية، بمعنى أعمق وأرقى وأكثر إنسانية. يشبه بنقائه دمعة فرح عالقة في عينَي طفل أكثر البحثَ عن وطنِ ووجده في مؤسسات محمد خالد الاجتماعية.
تعرفه الذاكرة البيروتية جيداً، وإن كانت لا تعترف بجميله كما يجب، ويحفظ مؤرخو المدينة كما كلّ بيت بيروتي القصة الأكثر رواجاً عنه، وأنّه كان الإنسان قبل الطبيب، وإذا زار مريضاً متواضعاً أو من المتعفّفين ترك له مع الوصفة الطبية الدعم المالي “تحت المخدّة”.
الدكتور محمد خالد هو نجل مفتي الجمهورية اللبنانية الأسبق الشيخ محمد توفيق خالد، وهو أيضاً الطبيب الإنساني الذي تميّز عن أطباء كثيرين بفائق عطائه وإنسانيته. عاش في بيت أول مفتٍ للجمهورية اللبنانية، عُرف بأنّه من أهم المفتين الذين جاؤوا لسدة الإفتاء. إذًا نشأ في بيت ديني وسياسي عُرِفَ بالعطاء والقيم والإنسانية، كما يخبرنا المؤرخ البيروتي الدكتور حسان حلاق.
إقرأ أيضاً: الدكتور محمد خالد (1): طبيب القرن 19 لمرضى القرن 21
أسس الدكتور محمد خالد عام 1958 “مؤسسة الخدمات الاجتماعية”. وكانت المدماك الأول لما يُعرف اليوم بـ”مؤسسات الدكتور محمد خالد الاجتماعية”. وفي عام 1962 كانت الانطلاقة لـ”مستشفى التأهيل الطبي التخصّصي”، الذي حقّق ولا يزال إنجازات رائدة في مجال التأهيل الفيزيائي.
تستمرّ المؤسسات منذ 62 سنة برعاية 450 طفلاً بين عمر الـ6 والـ18 سنة، من الذين يعانون مشكلات اجتماعية، ويحتاجون لعناية شاملة خارج عائلاتهم. ويرتفع عدّاد الإنسانية من سنة لأخرى. “نهتمّ بتعليمهم، وإقامتهم، وبرعايتهم صحياً، واجتماعياً”، يقول رئيس مجلس العمدة الدكتور وسيم الوزان.
وتضمّ “المؤسسات”، مركز “تأهيل أطفال الشلل الدماغي” الذي يهتمّ بذوي الإعاقات الجسدية الشديدة ويضمّ 65 طفلاً، و”مستشفى التاهيل الطبي” الذي يهتمّ بكبار السنّ ممن يعانون أمراضاً عصبية، ويقدّم لهم التأهيل والعلاج الفيزيائي ويضمّ 45 سريراً.
يستذكر أستاذ التاريخ في جامعة بيروت العربية حسان حلاق وفاة محمد خالد في صيف عام 1981، ودفنه في رحاب جامع الأوزاعي، حين شاركت في تشييعه “أعداد غفيرة” من أهل بيروت وعموم لبنان، ومنحه يومها رئيس مجلس الوزراء شفيق الوزان وساماً جمهورياً، وأُطلق على الجسر الحديدي في منطقة البسطة التحتا اسم “جسر وشارع محمد خالد” تكريماً لمسيرته الإنسانية.
لكنّ الحكاية المعروفة عنه، أنّ رئاسة مجلس الوزراء عُرضت عليه أكثر من مرّة، لكنه تعفّف عنها، أكثر من مرّة، ورفضها، وفضّل الانشغال عنها بالأعمال الخيرية والإنسانية والصحية، والاستمرار بالعمل الوطني غير التقليدي الذي أثمر في “مؤسساته”، فجعلها وقفاً خيرياً إسلامياً نشأ قوياً ويستمرّ قوياً: “ومن هنا نقول إنّ موضوع الوقف لا يموت مع الإنسان، بل يستمرّ بعده لمئات السنين”، يقول حلاّق.
أعمال محمد خالد الانسانية مستمرّة، بعد 39 سنة من وفاته، لكن ماذا عن التاريخ، والذاكرة الجماعية البيروتية، وأهل السياسة في بيروت فهل يمنحونه حقّه؟
وكغيرها من المؤسسات الإنسانية الاجتماعية، تتجرّع مؤسسات محمد خالد مرارة الأزمة الاقتصادية “فتستمرّ اليوم بالقيام بواجباتها تجاه الأطفال والموظفين من المال الحيّ” كما يصرّح الدكتور الوزان في حديثه لـ”أساس”. ويؤكد أنّ هذه المؤسسة مرّت عليها حروب وأيام صعبة كثيرة، وهي مستمرة حتى اليوم بسبب ثقة أهل الخير بها “والأهم هو الحصول على دعم المجتمع لنا، فالمؤسسة لا تجني المال، بل تعتمد بشكل أساسي على التبرّعات”.
للدكتور وسيم الوزان ذكريات لا تنتهي في المؤسسة، وهو الذي يفرح عند رؤية الأطفال “الذي يحتاجون فعلاً لهذه المؤسسة وهي تضع جهودها حيثما يجب”. ومن أكثر القصص اللافتة التي يستذكرها في المؤسسة ولن ينساها، تلك التي حصلت قبل شهرين تقربياً، عندما غاب طفل عمره 9 سنوات عن الوعي، وهرعوا به إلى المستشفى، ليتبين أنّ شرياناً قد انفجر برأسه (انفجار خلقي) تسبّب له بنزيف قوي في الدماغ وكاد أن يفارق الحياة. يتذكّر الوزان كيف تمكّنت المؤسسة من نقله إلى أكبر المستشفيات وأحدثها (مستشفى الجامعة الأميركية) لتقديم العلاج اللازم حيث استطاع الفريق الطبي إيقاف النزيف بعد عمليات عديدة، وعادت مؤسسة محمد خالد لتهتمّ بعلاجه الفيزيائي حتى عاد لحياته الطبيعية كأيّ طفلٍ آخر بالرغم من أنّ قلبه قد توقف مرات عديدة تحت العمليات. ويقول الوزان عن هذه الحادثة بتأثّر: “لو قضيت عمري من دون أن اقوم بأيّ عمل آخر لاكتفيت بشعوري بعد هذه الحادثة”.
وعندما نسأل أين نرى محمد خالد اليوم في هذه المؤسسات؟
يجيب الوزان: “في كلّ زاوية وفي كلّ شعلة نور”. فهناك ثقة بهذا الرجل منذ تلك الأيام، وما زالت تتكرّر، ولا زالت الناس تذكره “وأنا أفتخر بأنني على رأس هذه المؤسسة التي تحظى بثقة المجتمع وثقة الناس”. ويختم: “حتى نشيدنا اسمه حلم محمد خالد، هكذا كان يحلم…”، ونتمنى أن نكون على قدر حلمه.
أعمال محمد خالد الانسانية مستمرّة، بعد 39 سنة من وفاته، لكن ماذا عن التاريخ، والذاكرة الجماعية البيروتية، وأهل السياسة في بيروت فهل يمنحونه حقّه؟
لا يعتقد الدكتور حسان حلاق أنّ محمد خالد قد أُعطِي حقّه تماماً كما يلزم، بل هو بحاجة لمزيد من التكريم، إلى دراسات موسّعة وأكاديمية علمية تسلّط الأضواء على جهوده الإنسانية والطبية والسياسية والوطنية: “فهو عَلَم من أعلام الطب والوطن والخير، ولذلك هو بحاجة للمزيد من الدراسات لنوفيه حقه تماماً”.
ويسأل حلاق هنا: “ما المانع من إقامة احتفالية كبرى إما في دار الفتوى أو قاعة الأونيسكو لنردّ بعض الجميل له، لا سيما في هذه المرحلة ونحن نحتاج لتعريف الجيل الجديد بروّاد الخير ليكونوا قدوة لهم، وهو المثال الذي يجب أن يُقتدى به في هذه الأيام العصيبة، لم تُغرِه النيابة ولا الوزارة ولا رئاسة الوزراء، فقط خدمة الإنسان ولا شيء غيرها”.