محمد حسين فضل الله (1): مرجع مجدّد واجه التخلّف والمذهبية

مدة القراءة 7 د


لطالما أبهر مستمعيه ومحاوريه، بلغته الخاصّة، بأسلوبه في تناول المفاهيم القديمة والحديثة، وفي إقامة الحوارات ليس فقط مع الآخرين المختلفين، بل إنّ الحوار كان سمة حياة عنده. يتحاور مع الألفاظ والكلمات، يتبارز مع معانيها، ويدوّخها قبل أن يطرحها على الطاولة. لكأنّه كان يدوّر الزوايا الحادّة باللغة الراقية، ويداري منعرجات التاريخ بمتطلّبات الواقع، ويواجه قساوة السردية المذهبية بأفكار متسامية، تنزح من خزينه الشاعري، ألقاً وتوهّجاً.

برز شاعراً قبل أن يُعرف عالماً مجتهداً، وإصلاحياً عنيداً. ولم يكتفِ بالقول دون الفعل، فكان رجل المؤسسات المتنوّعة الأهداف، كما كان رجل الحوارات وفارسها المُعلّى. عُرف بدعوته الوحدوية، وحافظ على مساره هذا حتّى النهاية، لكن لم يسلم من الانتقادات اللاذعة والمُسيئة، مثل كلّ رجال الإصلاح في كلّ زمان.

إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ خليل الميس: العمامة التي واجهت الأعاصير

السيّد محمد حسين فضل الله، لم يكن عالماً تقليدياً، فضلاً عن أنّه لم يكن منزوياً في إطار مذهبي وطائفي محدّد. هو لم يخرج من عباءته، لكن تمكّن من أن ينفتح على “الآخر” بكلّ أبعاده. وكانت كلمة “الآخر” تتردّد دوماً على لسانه. وما هو ظاهر فيه ولا يمكن نكرانه، أنّه نجح في صياغة خطاب خاصّ ومتميّز، لا يمكن لأحد أن يقلّده فيه، منذ تحوّله إلى ظاهرة في منتصف الحرب الأهلية، وبخاصة عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وإعلان نشوء حزب الله بعده.

منذ سنواته الأولى في النجف الأشرف بدأ نجم السيّد محمد حسين فضل الله يلمع في الحوزة الدينية، وفي عالم الأدب والشعر وقد ولد فيها عام 1935. والده هو العلامة المجتهد السيد عبد الرؤف فضل الله، ووالدته الحاجّة رؤوفة بزّي، كريمة الحاج حسن بزّي، وشقيقة النائب والسياسيّ اللبناني اللامع علي بزّي (صاحب المواقف القومية والوطنية).

انتقل والده من بلدته الجنوبية عيناتا (قرب مدينة بنت جبيل) إلى النجف الأشرف للدراسة الدينية. وهناك تعلّم السيّد محمد حسين القراءة والكتابة في الكتاتيب، ثمّ انتقل منها إلى مدرسةٍ حديثةٍ تابعة لجمعيّة منتدى النشر، حيث انتسب إلى الصفّ الثالث ابتدائي في مدرسة نموذجيّة، ثم توقّف عن الدّراسة فيها في الصفّ الرّابع. وانخرط تماماً في الدّراسة الدينيّة في إطار الحوزة العلميّة، في ما بين سنّ التاسعة والعاشرة.

بدأ دراسة المقدّمات والسّطوح على والده، وفي سنّ السادسة عشرة تقريباً، بدأ بحضور دروس الخارج في الفقه والأصول على يد كبار أساتذة الحوزة آنذاك، أمثال: المرجع السّيد أبي القاسم الخوئي، المرجع السيّد محسن الحكيم، والسّيد محمود الشاهرودي، والشيخ حسين الحلّي، وحضر درس الأسفار عند الملاّ صدرا البادكوبي.

وقد برز السيد فضل الله سريعاً في النجف الأشرف سواء على مستوى العلوم الدينية أو عالم الأدب والشعر أو في إطار الحركة الإسلامية السياسية والاجتماعية والتي كان رائدها المرجع السيد محسن الحكيم، ومن ثَمّ المرجع السيد محمد باقر الصدر، ما مهّد لاحقاً لتأسيس حزب الدعوة الاسلامية في العام 1957.

إطلالته الأولى في لبنان، كانت في حفل تأبين المرجع الراحل السيد محسن الأمين في العام 1952 من خلال إلقائه قصيدة من 60 بيتاً إلى جانب كبار الشعراء والأدباء، وكان من بينهم الدكتور مصطفى السباعي، وكامل مروة صاحب جريدة “الحياة” في لبنان. وكانت القصيدة مثيرة للانتباه، لأنَّها تتحدّث عن الاستعمار الفرنسي، وعن الوحدة الإسلاميّة، وعن مشاكل كلّ الشباب. وألقاها عن ظهر قلب بدون ورقة، وكتبت عن ذلك  بعض الصحف اللبنانية. ومما قاله في تلك القصيدة:

وفي ذمَّة القدر المُبيد روحٌ تسيرُ مع الخلودِ

والدّين عقيدة شعَّت على أفق الوجود

عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود

وأريتنا أنَّ الإخاء من الهدى بيت القصيد

ومناهج توحي لنا روح التَّضامن والصّمود

فالمسلمون… لبعضهم في الدّين كالصّرح المشيد

لا طائفيَّة… بينهم ترمي العقائد بالجحود

والدّين روحٌ برّةٌ تحنو على كلّ العبيد

ترمي لتوحيد الصّفوف ودفع غائلة الحقود

عاش الموحِّدُ في ظلال الحقّ في أُفُق الخلود.

وفي هذه القصيدة برزت الروح التوحيدية واللامذهبية في فكر ومنهج السيد محمد حسين فضل الله، إلى جانب منهجه التجديدي، خصوصاً أن العلامة السيد محسن الأمين كان أحد روّاد الإصلاح والتجديد والتوحيد من بين علماء المسلمين الشيعة منذ بداية القرن العشرين وحتّى وفاته في خمسينيات القرن الماضي.

ورغم أهمية دوره وموقعه في النجف الأشرف، فقد فضّل السيد فضل الله الانتقال إلى لبنان  في العام 1966، وخاض غمار العمل الاجتماعي والسياسي والديني إلى جانب عدد من العلماء الكبار، ومنهم الإمام موسى الصدر، والإمام العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والعلامة الشيخ محمد جواد مغنية، والعلامة السيد هاشم معروف الحسني وغيرهم الكثير. وكان لهم دور مميّز في مسيرة الإصلاح الديني والاجتماعي والفكري، وإن كان لكلّ واحد منهم أسلوبه وطريقته.

وأسّس السيد فضل الله مركزاً دينياً ضمّ مسجداً وحسينية وحوزة دينية في منطقة النبعة (شرق بيروت) باسم “جمعية أسرة التآخي”، وتحوّل إلى أحد أهم المراكز الإسلامية الناشطة في تلك الحقبة. وتخرّج من هذه الحوزة عدد كبير من العلماء اللبنانيين. ولم يكتفِ بنشاطه في النبعة، بل كان ينتقل إلى كافة المناطق، وخصوصاً الجنوب حيث كان يقيم الأمسيات الدينية والثقافية والحوارية مع مختلف أصحاب الاتجاهات الفكرية والحزبية.

لكنّ الحرب الأهلية عام 1975 أجبرته على الخروج من النبعة والانتقال إلى الضاحية الجنوبية حيث أسّس مسجد الإمام الرضا في بئر العبد، وحوزة دينية في حيّ السلّم باسم “المعهد الشرعي الإسلامي”. ومن ثَمّ أسّس بالتعاون مع الشيخ شمس الدين والسيد موسى الصدر “مبرّة الإمام الخوئي”، التي تحوّلت لاحقاً إلى “جمعية المبرّات الخيرية”، وهي تضمّ عشرات المؤسسات الاجتماعية والتربوية والدينية والإعلامية والصحية والثقافية.

السيد محمد حسين فضل الله شخصية جدالية وإشكالية، ولا يمكن اختصارها بمقال أو دراسة. ترك عشرات المؤلفات ومئات القصائد، وكُتب عنه الكثير الكثير

تميّز السيد فضل الله بجرأته واجتهاده الديني غير التقليدي وحركيته وتبنّيه لمنطق الحوار مع جميع الفئات والاتجاهات الفكرية. وكان يكرّر مقولته الشهيرة: “الحقيقة بنت الحوار”.

وأما على صعيد العمل الاجتماعي، فقد انتهج منهجية جديدة حيث لم يكتفِ بجمع الصدقات وأموال الزكاة والخُمس والتبرّعات لبناء المؤسسات الاجتماعية، بل اعتمد على إقامة المؤسسات الإنتاجية والتي يمكن أن تساهم في تمويل الأنشطة الدينية والثقافية ومن هذه المؤسسات: محطات الأيتام، وقرية الساحة التراثية (وهي تضمّ مطاعم وفنادق متنوّعة).

ترك بصمات مميّزة في الساحة السياسية اللبنانية والعربية والدولية. وكانت له علاقات واسعة مع كبار السياسيين والأدباء والمفكّرين والشعراء، وتحوّلت دارته في بئر العبد وحارة حريك إلى فضاء حواري واسع. وقد تعرّض لمحاولات اغتيال متكرّرة، أبرزها عام 1985 من خلال سيارة مفخّخة في بئر العبد، أدّى انفجارها إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى. ويشار بالبنان إلى المخابرات الأميركية بأنّه كان لها دور مباشر بالتخطيط لهذا التفجير بسبب اتهام أميركا للسيّد بأنّه وراء التفجيرات التي طالت مقر المارينز في بيروت، وخطف الرهائن الأميركيين.

السيد محمد حسين فضل الله شخصية جدالية وإشكالية، ولا يمكن اختصارها بمقال أو دراسة. ترك عشرات المؤلفات ومئات القصائد، وكُتب عنه الكثير الكثير. ورغم أنه مضى على وفاته عشر سنوات في الرابع من تموز 2010، فهو لا يزال محور نقاشات وإشكالات في الساحة اللبنانية والإسلامية والعربية.

وقد شكلّت علاقته بحزب الله والمقاومة الإسلامية، والجمهورية الإسلامية في إيران، وموقعه من المرجعية الدينية، ودوره في الدعوة لتصحيح التراث الشيعي، بعضاً من هذه الإشكاليات.

في الحلقة الثانية غداً: محمد حسين فضل الله وايران وحزب الله: أين تقاطعا وأين اختلفا؟

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…