محمد بركات “الأيتام”، هل هو حالة استثنائية لا يمكن استنساخها، أم نموذج رائد للإدارة الفعّالة والمميّزة؟ سؤال يستثير الفضول.
بالنسبة لمحمد بركات وهو يقرأ تجربته الخاصة، فإن المستوى العلمي المتقدّم لا يكفي بحدّ ذاته. قد تكون الحياة نفسها أعظم مدرسة. وبين المقاصد واليسوعية، ثمة مدرسة غنية تعلّم منها، هي سوق سرسق، مقرّ عمل والده.
دخل محمد بركات عام 1961 إلى مؤسسة صغيرة جدّاً في الطريق الجديدة، متواضعة في مبناها وجهازها، كانت تأسّست عام 1917، على يد وجهاء بيارتة، إبان الحرب العالمية الأولى، كميتم صغير في منطقة زقاق البلاط، استجابة للظروف المأساوية آنذاك.
لم يكن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره حين تولّى مسؤوليتها. كبر فيها وكبرت به. دخل إلى المعترك شاباً، واعتمد على الشباب لتحقيق أحلامه. وخرج من “الميتم” بعد 51 عاماً، وقد أصبحت “مؤسسات الرعاية الاجتماعية في لبنان – دار الأيتام الإسلامية” 56 مجمّعاً ومؤسسة.
إقرأ أيضاً: هاني فحص: اتّساع الرؤية.. والعبارة
يقول بركات إنّه خرج من المكتب الذي دخل إليه أول مرة، ولم يغيّر فيه.. لكنه أنشأ من المجمّعات والمؤسسات والصروح والمنشآت والخدمات ما لا يمكن تصوّره. بعبارة أخرى، هو “أنشأ ما يشبه المنظّمة الكاملة في خدمة الفئات الأفقر والأحوج في لبنان” (بحسب سيرين دبوس، موقع الاقتصاد، 2014).
الفئات المشار إليها، فضلاً عن الأيتام، تتضمّن من لا عائل لهم، والأطفال المتسرّبين من المدارس، وذوي الصعوبات التعلميّة، وذوي الإعاقة الحسية (السمعية والبصرية)، والإعاقة الحركية، والإعاقة العقلية، (القابلين للتعليم والتأهيل)، والحالات الاجتماعية الصعبة، والنساء الأقل حظاً، وأطفال الأمهات العاملات، والأسر المحتاجة، والأرامل، وكبار السن من غير العجزة، وليس فقط الأيتام.
لا يعني ذلك أنّ دار الأيتام، هي بديل عن الأسرة، الحاضنة الطبيعية للأطفال. هو يؤكد أن “لا بديل عن دور الأسرة الأب أو الأم، أم كليهما معاً: “من يقول إنّ المؤسسة الرعائية هي أفضل من البيت يكون كلامه هراء بهراء، وأسوأ أسرة أفضل من أحسن مؤسسة رعائية. إلا أن هناك أطفالاً ليس لهم حضن ينعمون به، ولا سقفٌ يعيشون تحته، لذلك وُجدت المؤسسات الرعائية، وهي ضرورية لهذه الفئة من الأولاد لمنعهم من الانحراف. ولأنّ غياب المؤسسات الرعائية يزيد من وجود الأطفال القابلين للانحراف”، (حنان قرقوتي، ورقة بحثية بعنوان: رعاية اليتامى في بعض المؤسسات الرعائية في لبنان، 2006).
تبقى مسألة حيوية وهي التمويل. ومن أين يأتي؟ وكيف يُصرف، أو كيف يُستثمر بفعالية كي يجذب دعماً مستداماً؟
هذه المؤسسات الرعائية مُكلفة مادياً إن كان يُراد منها أن تكون واحة تؤدي خدمة جليلة للمجتمع بأسره، لا لشريحة محدودة منه، وحسب، ولا كي تؤدي وظيفة محدودة فقط. يقول محمد بركات إنها ليست مهمّة سهلة. و”من الصعوبة بمكان أن أنتزع من شخص مهمَ اعترافاً منه بدور العمل الأهلي الاجتماعي”.
ثمة دور إذاً لقدرة المؤسسة على إقناع المتبرّعين بالجدوى، واستلزاماً لذلك، ينبغي أن يكون المدير بارعاً في فنّ الإقناع. وهذا أكثر ما كان يبرع فيه محمد بركات، الآتي من سوق سرسق، وفي جعبته تجربة ناجحة في التسويق والترويج.
كلّ ما كانت تحتاجه دار الأيتام إذاً في الستينيات، هو خبير في تسويق المُنتج. لكن لا بدّ أولاً من تحسين جودة هذا المُنتج، كي يأتي المال. وهناك قاعدة ذهبية بالتمويل بحسب وجهة نظره، وهي أنّ المتبرّع يحبّ أن يدفع لمؤسسة ناجحة. لا أحد يتبرّع لمؤسسة مفلسة، لأنّ المتبرّع حصل بالتأكيد على أمواله من نجاح، ويريد أن يتبرّع به لمؤسسة ناجحة كي يتفاخر!
هو عقل تسويقي بارع مبنيّ على دراسة الجدوى النفسية، إن صحّ التعبير. فما يتمّ ترويجه هنا ليس سلعة مادية، بل سلعة معنوية. وهو ما يسميه بالرأسمال المعنوي الأهم من الرأسمال المادي، على الرغم من ضرورة الثاني. هنا تكمن عبقرية محمد بركات في تطبيق استراتيجيات التسويق في المجال الخيري.
والأهم من ذلك، كي ينجح أيّ عمل، يجب أن تنشأ علاقة حبّ. وقد أحبّ محمد بركات هذا العمل، وفضّله على مجال التجارة والصناعة، الذي كان محسوباً له أن يكون ميراث والده. ومن تجربته الطويلة في الحياة كما، يقول لـ”أساس”، إنّ “الإنسان يجب أن يحبّ عمله. فإذا أحبّه، يستطيع أن ينجح ويبدع الكثير. الأساس هو حبّ العمل، فإذا لم يحبّ الشخص عمله فلن ينجح”.
لكن التفريع على المؤسسة الأم، وتشعيبها وتنويع الخدمات الاجتماعية فيها، ألا يبدو وكأنّه بناء عنقودي لشركة متعدّدة الأفرع والاهتمامات، من أجل فسح الخيارات أمام المتبرّعين، وتكثير مظانّ الخير وطرقه؟ يجيب محمد بركات بأنّه لم ينظر إلى عمله بمؤسسة دار الأيتام من باب الاستفادة المادية: “خلال عملي لم آخذ راتباً، واعتبرته عملاً إنسانياً، ورسالة”.
أما استراتيجية محمد بركات في تمويل المؤسسة، فلم تقم على الدعم الخيري المستورد من الخارج، لأنّه لا يؤمن به كما يؤكد لـ”أساس”: “لقد آمنت بأن المجتمع المحلي ينشئ المؤسسات الخيرية التي يريدها، ويحتاج إليها، ويموّلها لتصل إلى النجاح، ويهيّىء لها سبل الاستمرار. فلذلك، كلّ شيء أُنجز في دار الأيتام، هو من مصدر محلي”.
يستدرك محمد بركات كاشفاً عن هوايات أخرى: “لقد فعلتُ كلّ ما أردت. وأنا أقول “كلّ ما يتمناه المرء يدركه، وتأتي الرياح بما قد تشتهي السفن”. لكن أريد أن أصدر بعض الكتب التي ألّفتها، ولم تسنح لي الفرصة لأن أنشرها
وبما أن أكبر المصاعب التي يواجهها القائمون على العمل الخيري، هو العثور على التمويل، لسدّ حاجات المؤسسات، “فإن الجمعيات الخيرية الأخرى أضاعت وقتاً كثيراً في جمع التبرّعات، كما يرى محمد بركات، بينما يؤكد أنّ “أغنى مجتمع هو المجتمع المحلي بالنسبة لدار الأيتام، لأنّ الناس ترى بعيونها ماذا تفعل المؤسسة”. أما المصدر الرئيسي للتمويل، “فكان من أهالي بيروت وحتى لا أظلم أهالي لبنان ككلّ”.
فما هي أغرب الحوادث التي مرّت به في هذه الرحلة الطويلة، وقد نشأت أجيال، ومرّت حروب وأزمات، وواجهت المؤسسة صعوبات وحقّقت إنجازات؟
تزدحم الذكريات في عقل محمد بركات، ويختصرها بالكشف عن كتاب في صدد نشره: “هذه قصّة كبيرة وواسعة، ولا أستطيع أن أتكلّم بها، ولا أستطيع أن أجتزئ 60 سنة من حياتي. كنت أعمل 14 ساعة يومياً. ومرّت حوادث، وشهدت قصصاً أستطيع أن أكتبها في روايات. لذلك، أعمل على إصدار كتاب عن مسيرة عملي”.
ويستدرك محمد بركات كاشفاً عن هوايات أخرى: “لقد فعلتُ كلّ ما أردت. وأنا أقول “كلّ ما يتمناه المرء يدركه، وتأتي الرياح بما قد تشتهي السفن”، (في تحوير لبيت مشهور لأبي الطيب التنبي). لكن أريد أن أصدر بعض الكتب التي ألّفتها، ولم تسنح لي الفرصة لأن أنشرها. كما كانت لي هواية بشراء الأنتيكة كالمناقل مثلاً. فضمن إمكانياتي الضيقة، كنت أشتري أشياء أصبح لها قيمة اليوم، وأريد أن أعرض هذه الأغراض في المتاحف العالمية أو هنا في المراكز المهمة في لبنان كقصر “بيت الدين” أو “المتحف الوطني”.
ويختم مختزلاً حكاية خمسة عقود من العمل في دار الأيتام: “دار الايتام وجدتني، وأنا وجدت نفسي. الانتماء قضية أساسية، وأنا اعتبرت أنّ الله اختارني حتّى أصبحت مديراً لمؤسسة الأيتام”.
ويختم: أما التصاق اسم شخص بعمل معيّن، فهذا ليس من شأن الشخص. وأنا لم أقل للناس عن نفسي. حصلتُ على أربعة أوسمة. لكن كل من يسألني من الناس “أنت شو؟”، أقول لهم: “أنا محمد بركات تبع دار الأيتام”!
غداً الحلقة الثانية: محمد بركات… “محقق” الأحلام (2/2)