لا عقد في السياسة المغربية. لا عقد من الماضي ولا عقد في الحاضر ولا عقد في تصور المستقبل. هذا ببساطة ما يمكن استخلاصه من خطاب الملك محمد السادس الأخير، الذي ألقاه في الذكرى 24 لتوليه العرش، مقدماً مثالاً على البراعة الاستراتيجية للدبلوماسية المغربية وفهماً دقيقاً يجمع بين الإرث التاريخي للنظام الملكي والواقع المعاصر للمجتمع المغربي، لتكوين رؤية التطوير ورسم المسار المستقبلي للبلاد.
ببساطة وصدق، يؤكد العاهل المغربي أن فلسطين تشكل جزءاً مهماً من سياسة بلده الخارجية وحجر زاوية في هويته العربية، ولكن أيضاً على قاعدة الربط بين المغرب والعالم من خلال الالتزام بمبدأ العدالة الدولية ومنطلقات السلام، لا من أي منطلق عنصري أو ديني أو عرقي أو صراعي. هذه الدقة في حماية التحالفات الاستراتيجية للمغرب وثبات موقفه في القضايا الدولية الحساسة، هما ما يتيح له أن يباهي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية والاعتراف الدولي المتنامي الذي يكتسبه في ملف الصحراء، خاصة من إسرائيل. وهما ما يسمحان له بأن يقدم هذا الإنجاز بوصفه انتصاراً استراتيجياً ودبلوماسياً لشعبه وبلاده، من دون أن يكون في ذلك ذرة تناقض بين المصلحة الوطنية للمغرب ومسؤولياته العربية والدولية بخصوص القضية الفلسطينية.
لم يكن من باب المجاملة أو سياسات التسويق أن يركز الملك في خطابه على التزام المغرب بالتنمية المستدامة والممارسات المبتكرة المتعلقة بها، معرجاً على المعنى الذي يكتنزه إنتاج أول سيارة مغربية، وطراز منها يعمل بالطاقة الهيدروجينية
واللافت أيضاً أن مضمون الموقف المغربي يقوم على تحقيق مكاسب استراتيجية عبر الدبلوماسية النشطة، متخلياً عن الضجيج المرافق في العادة لآليات العمل السياسي في المنطقة والقائم على التهديد والوعيد والتشنج والمزايدات في ملفات فلسطين وغيرها. وفي هذا السياق، يمكن فهم النهج الدقيق للعلاقة مع الجزائر الذي عبر عنه الخطاب، بكلام واضح عن اليد الممدودة دوماً، كما عبر المنطق التصالحي الهادف إلى الاستقرار والتفاعل الإقليمي الخلاق، بدل مواجهات. فعلى الرغم من التفاؤل الحذر يؤسس الخطاب لتقارب محتمل بين الجارين المهمين على قاعدة احترام المعطيات التاريخية والجيوسياسية المعقدة الموجودة بينهما، ويفتح الباب أمام إحقاق التوازن بين المصالح الوطنية لكل منهما وبين شروط الانسجام الإقليمي.
هذا في السياسة… أما فيما هو أبعد وأهم، يكشف الخطاب عن مرتكزات لصناعة السياسة المغربية، وفق خطاب الملك.
ترتكز السياسة المغربية على الاستخدام الاستراتيجي للقوة الناعمة في منطقة غالباً ما يهيمن عليها منطق القوة والاستقواء. فدبلوماسية الرباط متجذرة في استثمار التأثير الثقافي، والشراكات الاقتصادية، والدبلوماسية الهادئة، بالإضافة إلى الموقف التقدمي من قضايا الطاقة المتجددة وحقوق الإنسان. وقد كان لافتاً تطرق العاهل المغربي إلى تقديم ملف ترشيح مشترك بين المغرب وإسبانيا والبرتغال لاحتضان نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2030 بوصفه «إنجازاً يتطلع المغرب إليه ويعمل على أن يكون تاريخياً على جميع المستويات»، باعتبار أنه «ترشيح غير مسبوق، يجمع بين قارتين وحضارتين؛ أفريقيا وأوروبا، ويوحد ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ويحمل طموحات وتطلعات شعوب المنطقة، للمزيد من التعاون والتواصل والتفاهم»، كما جاء في الخطاب.
ببساطة وصدق، يؤكد العاهل المغربي أن فلسطين تشكل جزءاً مهماً من سياسة بلده الخارجية وحجر زاوية في هويته العربية، ولكن أيضاً على قاعدة الربط بين المغرب والعالم من خلال الالتزام بمبدأ العدالة الدولية ومنطلقات السلام
لم يكن من باب المجاملة أو سياسات التسويق أن يركز الملك في خطابه على التزام المغرب بالتنمية المستدامة والممارسات المبتكرة المتعلقة بها، معرجاً على المعنى الذي يكتنزه إنتاج أول سيارة مغربية، وطراز منها يعمل بالطاقة الهيدروجينية. فليس هذا مما يعزز إمكانات الدولة وجهةً استثماريةً وحسب، بل يؤكد أيضاً على الأولوية التي توليها الدولة لتنويع قاعدة المواهب المغربية وتهيئة الجيل الجديد ليكون في صلب الأدوار الاقتصادية الجديدة للمغرب. يكفي في هذا السياق النظر إلى الزمن القياسي الذي حقق في خلاله ميناء طنجة المتوسط قفزته النوعية على مستوى التصنيف العالمي، حيث ارتقى، حسب تقرير البنك الدولي، من المرتبة السادسة إلى الرابعة عالمياً خلال 2022 من بين أكثر من 340 ميناء حاويات حول العالم شملها التصنيف، متفوقاً بذلك على موانئ أوروبية، من حيث الكفاءة ومؤشر الأداء. ويوفر ميناء طنجة المتوسط ربطاً دولياً يغطي ما يقرب من 186 ميناءً و77 دولة في 5 قارات، فهو على بُعد 10 أيام من الولايات المتحدة الأميركية و20 يوماً من الصين، وفي القارة الأفريقية يخدم الميناء ذاته 35 ميناء و21 دولة في غرب أفريقيا عن طريق الرحلات الأسبوعية.
كلمة «الجدية» كانت الأكثر وروداً في خطاب العاهل المغربي بوصفها مبدأ عاماً للعمل الوطني والسياسي والاجتماعي، إلى جانب تركيزه على أولوية النزاهة والكفاءة والخدمة في مجالات الخدمة العامة. فدعوته إلى «الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية»، تشير إلى أن الملك يضع توقعات واضحة لمن هم في مواقع السلطة، تكون هي الفيصل بين المنتظر من الحكم المغربي والنماذج الأقل شفافية والأقل خضوعاً للمساءلة.
علاوة على ذلك، فإن إدراك الملك للآثار السلبية للأزمات العالمية والجفاف على المجتمع المغربي يظهر وعياً واستعداداً لمواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية بشكل مباشر، بدل الاستثمار فيها باعتبارها أعذاراً للفشل أو تأجيل الاعتراف بها، وتحمل مسؤوليتها بسبب الصعوبات التي تكتنفها. يعزز هذا النهج بيئة مواتية للنمو والاستقرار الوطنيين، ويوسع السبل لتحقيق مغرب مزدهر ومنصف.
إقرأ أيضاً: هل تغيّرت قطر فعلاً؟
باختصار يعكس خطاب العاهل المغربي فهماً دقيقاً للتحديات الثلاثة التي تختصر عالمنا اليوم؛ وهي سباق تطوير البنية التحتية وتنمية المواهب واعتناق التقدم التكنولوجي بوصفه مذهباً رئيسياً للتطوير. كما يعبر الخطاب عن التزامه مواجهة هذه التحديات وجهاً لوجه، بروح «الوحدة بين الشعب والملك»، والعمل بغية دفع المغرب إلى الأمام في هذه المجالات الحاسمة من المنافسة العالمية.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”