مجزرة الغوطة: من يحاسب الأسد.. وأوباما؟

مدة القراءة 9 د


قبل عشر سنوات، تحديداً ما بين 21 و31 آب 2013، رُسمت الخطوط العريضة للمشهد السوري الحالي الذي بات صراعاً دموياً، محلّياً إقليمياً دولياً بلا نهاية ولا غاية، إلّا نهب الثروات الوطنية وتدمير النسيج الاجتماعي السوري.

فما تزال سوريا حتى اللحظة تتخبّط بدماء أبنائها وتتجرّع آلامهم من دون أيّ ضوء في النفق، على الرغم من تجدّد الحراك الشعبي انطلاقاً من السويداء هذه المرّة. ومع تعثّر الحلّ السياسي سابقاً برعاية دولية وإقليمية، وفشل الرهان لاحقاً على تطبيع النظام السوري مع المجتمع الدولي، تتّجه الأنظار مجدّداً إلى واشنطن، لعلّ الترياق يأتي من هناك، أي من المكان نفسه الذي كان الداعم الأوّل للربيع العربي أواخر عام 2010، فكان ما كان، ممّا لا يتّسع المقام لتفصيله من مآسٍ، لا سيما في سوريا الجريحة والممزّقة، والخاضعة لاحتلالات أجنبية شتّى.

قبل عشر سنوات، تحديداً ما بين 21 و31 آب 2013، رُسمت الخطوط العريضة للمشهد السوري الحالي الذي بات صراعاً دموياً، محلّياً إقليمياً دولياً بلا نهاية ولا غاية، إلّا نهب الثروات الوطنية وتدمير النسيج الاجتماعي السوري

بطل الحدث ليس سوى باراك أوباما. فهذا الرئيس الأميركي الاستثنائي بأصوله العرقية والدينية، وثقافته القانونية الرفيعة، ارتكب أخطاء لا تُغتفر في المنطقة التي ما تزال تعاني من آثارها. في تلك الحقبة الفريدة من نوعها، فاجأ أوباما العالم عندما أمَرَ الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ثمّ الرئيس المصري محمد حسني مبارك، بالتنحّي عن السلطة، إثر التظاهرات الاحتجاجية ضدّهما. وعندما استعصى الزعيم الليبي معمّر القذّافي على الأمر الصادر إليه هو الآخر، أرسل أوباما طائراته تحت غطاء الناتو لإسقاطه بالقوّة، بل قتله. فلمّا وصلت الثورة إلى أبواب دمشق، ران الصمت العجيب، وتغيّرت نبرة الخطاب. فوقع السوريون في الفخّ. استعمل النظام كلّ مبتكراته الأمنيّة لإجهاض الثورة، محفّزاً إيّاها لتصبح نزاعاً طائفياً مسلّحاً. ومع ذلك، صمد السوريون أمام آلته العسكرية الضخمة، فلجأ مراراً إلى سلاحه السرّيّ، الذي أعدّه سابقاً ليكون أداة توازن وردع مع إسرائيل: غاز الأعصاب (السارين). فما كان من أوباما إلّا أن هدّد دمشق في 20 آب 2012، بأنّ استعمال هذا السلاح هو تجاوز للخطّ الأحمر، وسيعرّض النظام لعواقب وخيمة. هذا الخطّ الملوّن سيبدو سراباً بعد عام فقط، حتى إنّ باراك نفسه تبرّأ منه!

أكبر هجوم كيميائيّ في القرن الـ21

في الساعات الأولى من يوم 21 آب 2013، كان سكوت كيرنز Scott Cairns يبذل جهده كي ينام في غرفته في فندق فور سيزونز Four Seasons Hotel  في دمشق. كيرنز كان عضواً في بعثة الأمم المتحدة برئاسة العالم السويدي آكي سيلستروم Åke Sellström للتحقيق في زعم استعمال النظام للأسلحة الكيميائية ضدّ مواقع المعارضة. وضمّت البعثة الأممية آنذاك ممثّلين عن منظمة الصحّة العالمية ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية. وبصفته رئيساً لفريق منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية، فقد كان لدى كيرنز ما يدعوه للقلق، إذ أثبتت العيّنات التي استُخرجت من رئتَي امرأة قُتلت في هجوم على مدينة سراقب قبل أربعة أشهر أنّ النظام كان يستخدم غاز الأعصاب السارين.

في الساعة 2:30 بعد منتصف الليل، لاحظ كيرنز ومضات على التلال الواقعة شمال دمشق. وكان بإمكانه من نافذته رؤية قصف مدفعي يحلّق فوق المدينة ويصيب أهدافاً في الشرق. واستمرّ الهجوم لمدّة ساعة. وبعد توقّف، حوالى الساعة 5 صباحاً، استؤنف الهجوم، وضرب هذه المرّة جنوب غرب المدينة. استمرّ القصف حتى شروق الشمس، ومع انقشاع الرؤية، لاحظ كيرنز أنّ الدخان الناتج عن الهجوم كان منخفضاً، واجتاح حيّ الغوطة في الشرق. كان كيرنز قد شهد للتوّ أكبر هجوم كيميائي في القرن الحادي والعشرين، وهو أوّل استخدام كبير لغازات الأعصاب منذ عام 1988، عندما قتل صدّام حسين ما يصل إلى خمسة آلاف كردي في حلبجة بمزيج من غاز السارين والتابون tabun وغاز الأعصاب VX.

استهدف الهجوم الأوّل بلدتَي زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية، بينما استهدف الهجوم الثاني المعضّمية، على بعد 12 ميلاً إلى الغرب. ظهرت التقارير الأولى عن الهجوم الكيميائي على وسائل التواصل الاجتماعي من عين ترما الساعة 2:45 صباحاً، ومن زملكا الساعة 2:47 صباحاً. وفي غضون ساعات، نُشرت مئات مقاطع الفيديو والصور من 12 موقعاً في الضاحيتين تُظهر ضحايا مذعورين يكافحون من أجل التنفّس، مع ظهور رغوة في الفم، وقيء، وتشنّج. وظهرت صور لنوعَي الذخائر المستخدمة في الهجمات. أصيبت الغوطة الشرقية بصاروخ “بركان” عيار 330 ملم، وهو صاروخ غراد سوفيتي تمّ تعديله باستخدام علبة كيميائية وزعانف تثبيت.

بطل الحدث ليس سوى باراك أوباما. فهذا الرئيس الأميركي الاستثنائي بأصوله العرقية والدينية، وثقافته القانونية الرفيعة، ارتكب أخطاء لا تُغتفر في المنطقة التي ما تزال تعاني من آثارها

أصيبت المعضّمية بصاروخ مدفعي سوفيتي عيار 140 ملم من طراز M-14. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وبناءً على بيانات من المستشفيات والمرافق الطبّية، سجّلت لجان التنسيق المحلية 1,338 حالة وفاة. وبعد تسعة أيام، قدّر تقويم صادر عن الحكومة الأميركية عدد القتلى بـ 1,429، من بينهم 426 طفلاً. الومضات التي شهدها كيرنز جاءت من قاعدة الحرس الجمهوري في جبل قاسيون، التي تبعد أقلّ من ميلين عن معمل الأسلحة الكيميائية الرئيسي في سوريا، المعهد 3000 التابع لمركز الدراسات والأبحاث العلمية، الواقع في جمرايا. ويضمّ المجمّع نفسه أيضاً الفرع 450، حيث يجري تخزين الأسلحة الكيميائية وخلطها وتحميلها قبل نشرها. وفي 18 آب، أي قبل 3 أيام من الهجوم، التقطت الاستخبارات الأميركية بالفعل نشاطاً يشير إلى الاستعداد لهجوم كيميائي ما. وفي الوقت نفسه، اعترضت الاستخبارات الألمانية مكالمة بين أحد قادة الحزب والسفارة الإيرانية، ألقى فيها الأوّل باللوم على الرئيس السوري بشار الأسد لأنّه فقد أعصابه وأمر بالهجوم الكيميائي، وذلك بحسب مقال نُشر أخيراً في مجلّة New Lines.

ونقل تقرير آخر في مجلّة ذي إيكونوميست The Economist شهادات من سكّان الغوطة، الذين سمعوا ضجيجاً غريباً، كما لو أنّ أحداً يفتح زجاجة بيبسي. وأوضح طبيب محلّي، وهو يحبس دموعه، أنّ الكثير من الناس لجأوا إلى تحت الأرض، لكنّ الغاز كان أثقل من الهواء وتجمّع في الأقبية والسراديب. ولو أنّهم صعدوا الدرج بدلاً من ذلك، لكانوا قد عاشوا. ولقي أكثر من ألف شخص حتفهم في تلك الليلة. وقام الطبيب بتوزيع حوالي 25 ألف أمبولة من الأتروبين و7,000 أمبولة من الهيدروكورتيزون على الفرق الطبية حتى يتمكّنوا من محاولة إنقاذ أولئك الذين كانوا يعانون من آثار غاز الأعصاب.

تواطؤ متعدّد الأطراف

في واشنطن، عقد أوباما اجتماعاً طارئاً لمجلس الأمن القومي لنقاش كيفية الردّ على اختراق الخطّ الأحمر. وكان ثمّة إجماع على الردّ العسكري، لكن ريثما ينسحب أعضاء الوفد الأممي من سوريا. لكنّ أوباما وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سامنتا باور Samantha Power فشلا في إقناع الأمين العامّ بان كي مون بسحب المفتّشين الدوليين قبل أن تكتمل مهمّتهم المتمثّلة في فحص أماكن القصف وجمع العيّنات.

في الأثناء، كان النظام يماطل في السماح للفريق الأممي بالوصول إلى الغوطة. بل ضاعف النظام قصف المنطقة نفسها بالقذائف التقليدية أربع مرّات أكثر ممّا كان يفعل قبل عشرة أيام. ووزّع مساجين في المواقع المعرّضة للقصف الأميركي في أيّ لحظة، ليكونوا دروعاً بشرية. وكانت خمس مدمّرات أميركية في البحر المتوسط محمّلة بصواريخ توماهوك تنتظر الإشارة.

الأغرب من ذلك، ما كشفه رئيس الفريق الأممي سيلستروم بعد عامين من الحادثة حين أقرّ في لقاء بالسويد أنّه بالنظر إلى أنّ أميركا وبريطانيا وفرنسا كانت متحمّسة في اليومين الأوّلين للردّ العسكري على النظام، فقد كانت الاستراتيجية آنذاك تأخير أيّ عملية مرتقبة خمسة أيام ريثما تهدأ النفوس، وكان الفريق الأممي هو العائق.

بتشجيع من روسيا والمساعدة الدولية والمساعي الحميدة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، دُمّر 1,300 طن من الأسلحة الكيميائية، و1,200 قذيفة، و27 منشأة إنتاج

مع ذلك، تمكّن المفتّشون الدوليون، الذين وصلوا إلى المعضّمية تحت أزيز رصاص القنص، من جمع العيّنات. وأثبتت الفحوص بعد أيام في مختبرات مستقلّة في السويد وفنلندا أنّ المادّة المستعملة في القصف هي غاز أعصاب السارين. بل عثروا أيضاً على مادّة غير اعتيادية هي الهيكسامين hexamine التي يستعملها النظام في تصنيع السارين. واكتشفوا في الغوطة مخلّفات الصاروخ المستخدم، وآثار القصف التي يُستدلّ بها على مسار القصف الآتي من مواقع النظام في جبل قاسيون. لكنّه كان جهداً دون جدوى، فبعد سبع سنين من الهجوم، ظلّت الأمم المتحدة على توصيفها له بأنّه حدث متنازَع عليه!

تبرئة أوباما؟

في مراجعة مجلّة ذي إيكونوميست لما كتبته في تقرير لها قبل عشر سنين، في ما وصفته آنذاك بضعف الغرب وخطأ أوباما، تورد في مقال لها في الذكرى العاشرة للمذبحة رأي غريغوري كوبلينتز Gregory Koblentz، خبير الأسلحة الكيميائية الذي يدرّس في جامعة جورج ماسون في فيرفاكس بولاية فيرجينيا، حين اعتبر أنّ “اتفاق ضمّ سوريا إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية كان أحد أعظم إنجازات منع الانتشار النووي في القرن الحادي والعشرين”. فقد كان لدى سوريا البرنامج الأكثر تقدّماً في الشرق الأوسط، لردع أيّ هجوم عسكري تقليدي من جانب إسرائيل.

وبتشجيع من روسيا والمساعدة الدولية والمساعي الحميدة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، دُمّر 1,300 طن من الأسلحة الكيميائية، و1,200 قذيفة، و27 منشأة إنتاج. وأشار كوبلينتز إلى أنّه من 10 إلى 12 صاروخاً قتلت أكثر من ألف شخص في 21 آب عام 2013. وكان كلّ واحد منها يحمل نحو 50 لتراً من غاز الأعصاب ويزن أقلّ بقليل من 55 كيلوغراماً. وبالمقارنة مع الآثار المسجّلة آنذاك، فإنّ غازات الأعصاب التي دمّرتها سوريا ربّما كانت تزن ألف طن، وهو ما يكفي لمهاجمة الغوطة 1,800 مرّة.

إقرأ أيضاً: نتانياهو “يصفع” بايدن… بكشف “التطبيع” مع ليبيا

لكنّ النظام يستمرّ باستخدام غاز الكلور، وإحدى المرّات في عام 2018، حين ردّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمشاركة مع بريطانيا وفرنسا بعدد من صواريخ الكروز. بل يرى كوبلينتز أنّ النظام احتفظ بجزء ضئيل من مخزون السارين بالمقارنة مع المخزون الأصلي، لأنّ النظام استخدم في ثلاث حوادث أخرى غاز الأعصاب، وإن كان أقلّ أثراً ممّا حدث في الغوطة الشرقية.

ما لا تصرّح به المجلّة البريطانية أنّ أوباما بنزعه السلاح الكيميائي السوري معتبراً إيّاه يوماً مجيداً للبشرية، إنّما كان يحمي إسرائيل لا الشعب السوري.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…