أميركا أكبر داعم لإسرائيل منذ تأسيسها. لكنّ هناك تاريخاً من الخلافات والاختلافات، منذ الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور (1961 – 1953) إلى جو بايدن (2021 – 2025). في الحلقة الأولى استعراض لتاريخ العلاقة.
لم تتوقّف الولايات المُتحدة عن تقديم نفسها باعتبارها الدّاعم الأوّل والحليف الرّئيسي لإسرائيل منذ السّاعات الأولى لعمليّة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. تبنّت واشنطن الرّوايات الإسرائيليّة عند كلّ نقطةِ تحوّل في مجريات العمليّة العسكريّة.
هذا ما حصلَ مع تبنّي الرّئيس جو بايدن الرّوايات الإسرائيليّة في “قطع رؤوس الأطفال”، قبل أن يتراجع عنها بطريقة خجولة. كذلك حينَ قصفت إسرائيل المستشفى المعمداني وأعفى إسرائيل منها في تصريحه من قلب تل أبيب.
يُمكن القول إنّ أميركا تنظُر إلى إسرائيل كواحدة من ولاياتها الـ50، أو قاعدة مدنيّة – عسكريّة أميركيّة على مياه البحر الأبيض المُتوسّط، تضمن لواشنطن مصالحها في منطقة الشّرق الأدنى. هذا ما أثبتته وتُثبته تجارب الماضي والحاضر والمُستقبل.
بعدَ ساعاتٍ قليلة من إعلان ديفيد بن غوريون قيام “دولة إسرائيل” في 1948، أصدَرَ الرّئيس الأميركيّ حينذاك هاري ترومان اعترافاً بـ”الدّولة الجديدة”، وبعدَ عامٍ قدّم كلّ الدّعم السّياسيّ المطلوب لضمّها إلى الأمم المُتحدة.
فاقَ الدّعم الأميركيّ المُقدّم للدّولة العبريّة منذ اعتراف ترومان إلى اليوم 150 مليار دولار، من دون احتساب فارق قوّة العملة. وبحسب “خدمة أبحاث الكونغرس” (CRS)، فإنّ إسرائيل هي أكبر متلقٍّ للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية.
تختلفُ أولويّات واشنطن في بعض الأحيان عن أولويّات حليفتها العبريّة، بل ووصلَت في السّابق إلى حدّ التهديد بوقف المعونات الأميركيّة لإسرائيل
في الحروب، لم تغِب واشنطن يوماً عن تقديم كلّ أنواع الدّعم العسكريّ واللوجستي والمعلوماتيّ لتل أبيب. والشّواهد في ذلكَ كثيرة من حرب 1967 وفتح المخازن والجسر الجوّيّ الذي قلبَ الموازين في حرب تشرين – أكتوبر 1973، ومجيء حاملات الطّائرات وطرّادات الصّواريخ إلى مياه البحر المتوسّط ومئات الأطنان من الذّخائر والسّلاح في حرب غزّة 2023.
على الرّغم من الدّعم الأميركيّ “المفتوح”، بدأت تخرجُ من كواليس العلاقة الأميركيّة – الإسرائيليّة خلافات تُعيد تذكير الجميع بأنّ العلاقة بين واشنطن وتل أبيب لها حدود اسمها “المصالح الكُبرى” و”الحسابات الدّاخليّة” لكلّ منهما. فمن الخطأ الجزم أنّ أميركا في “جيبة إسرائيل”، أو أنّ “إسرائيل في جيبة أميركا”. بل الصّواب القول إنّ علاقة أميركا وإسرائيل تُشبه العلاقة العائليّة: “لا يرغب أيّ منهما بإخراج الخلافات إلى العلن إلّا عند الضّرورة القصوى”.
صكوك البراءة من المجازر
قبل أيّام صرّحَ الرّئيس الأميركيّ جو بايدن من سان فرانسيسكو أنّ “طريقة اقتحام الجيش الإسرائيليّ لمُستشفى الشّفاء تُظهرُ أنّ إسرائيل تغيّرت.. إنّ ما يحدث مُختلفٌ عمّا كانت تجري عليه الأمور من قبل”.
بالطّبع، ليسَت مشاهد اقتحام مُستشفى الشّفاء هي محطّة الخلاف الأميركيّ – الإسرائيليّ الوحيد في الحرب على غزّة.
لئن اتّفقَ الجانبان على ضرورة “إقصاء حماس”، إلّا أنّ الرّؤية تختلف بين واشنطن وتل أبيب حولَ ما بعد الحرب على قطاع غزّة. إذ أصرّ الرئيس الإسرائيليّ إسحاق هرتسوغ في مُقابلة مع صحيفة “Financial Times” على أنّ إسرائيل لا يمكن أن تترك فراغاً في غزة وأنّ هذا سيتطلّب وجوداً إسرائيلياً قويّاً جداً.
على الرّغم من الدّعم الأميركيّ “المفتوح”، بدأت تخرجُ من كواليس العلاقة الأميركيّة – الإسرائيليّة خلافات تُعيد تذكير الجميع بأنّ العلاقة بين واشنطن وتل أبيب لها حدود اسمها “المصالح الكُبرى”
منذ اللحظات الأولى لمّحَ رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو إلى نيّة تل أبيب إعادة احتلال القطاع، أو بسط السّيطرة الأمنيّة الإسرائيليّة عليه على أقلّ تقدير، ورفضَ تسليم السّلطة في غزّة إلى السّلطة الفلسطينيّة، إضافة إلى دعوات أحزاب “الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة” إلى إعادة الاستيطان إلى القطاع.
أمّا واشنطن فكانت أكثر وضوحاً. فقد قال بايدن إنّ “إعادة احتلال القطاع سيكون خطأ كبيراً”. كما عبّرت المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد عن أهداف بلادها المتمثّلة بـ”غزّة موحّدة مع الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية، وآلية مستدامة لإعادة الإعمار في القطاع”. وهذا يختلف تماماً مع الأهداف الإسرائيليّة.
ليسَ الخلاف الأوّل
هذا الخِلاف ليسَ الأوّل من نوعه، وبطبيعة الحال لن يكونَ الأخير.
تختلفُ أولويّات واشنطن في بعض الأحيان عن أولويّات حليفتها العبريّة، بل ووصلَت في السّابق إلى حدّ التهديد بوقف المعونات الأميركيّة لإسرائيل.
في أواخر تشرين الأوّل 1956، قرّر ديفيد بن غوريون المُشاركة في العدوان الثّلاثيّ مع فرنسا وبريطانيا ضدّ مصر، واجتاحت قوّاته شبه جزيرة سيناء. يومئذ رفضَت واشنطن خطوة بن غوريون، وفرضَت وقفاً لإطلاق النّار في الأمم المُتحدة، ودعَت جميع الأطراف إلى الانسحاب من الأراضي المصريّة.
لم يستمع بن غوريون لموقف واشنطن، ووقفَ في الكنيست الإسرائيليّ ليقول: “سيناء كانت تاريخياً جزءاً من أراضي إسرائيل. لا يمكن القول إنّنا غزونا مصر. فاتفاقيات الهدنة لعام 1949 والحدود التي حدّدتها ماتت ودُفنت ولن تُبعث أبداً”.
يومها كانَ موقف الرّئيس الأميركيّ دوايت آيزنهاور حادّاً ولم يستمع لكلّ ضغوط اللوبي اليهوديّ في واشنطن، وقال إنّ احتلال سيناء “سيُضعف التّعاون الودّي بين الولايات المُتحدة وإسرائيل”، وهدّدَ بوقف المعونات الأميركيّة وإلغاء الإعفاءات الضريبية الاستثنائية.
إقرأ أيضاً: الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس”: ندعم إسرائيل في حال توسّع النّزاع
هذا ما دفعَ بن غوريون إلى رفع “الراية البيضاء” أمام موقف واشنطن، وأن ينسحبَ آخر جندي إسرائيليّ من سيناء في منتصف آذار من عام 1957.
في الحلقة الثانية غداً: تاريخ خلافات أميركا وإسرائيل (2/2): بوش وأوباما وبايدن
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@