من سوء حظ لبنان، الذي بات مستقبله في مهبّ الريح، غياب القيادة السياسية القادرة على فهم المتغيّرات الإقليمية، واستيعاب أبعادها، والسعي إلى التعاطي معها بما يجعل البلد في منأى عن العاصفة التي تضرب الشرق الأوسط.
تواجه المنطقة عاصفة لا سابق لها منذ مئة عام، تاريخ توقيع اتفاق سان ريمو (1920) الذي أضفى شرعية دولية على اتفاق سايكس بيكو (1916)، عبر موافقة عصبة الأمم عليه، كما رسم الخريطة الجديدة للشرق الأوسط في ضوء انهيار الدولة العثمانية من جهة ورغبة بريطانيا وفرنسا في وراثة جزء منها من جهة أخرى.
يحتاج التعاطي مع ما يمرّ فيه الشرق الأوسط إلى الحكمة والعقل والتعقّل والمنطق… وإلى الثقافة السياسية الجامعة خصوصاً. كلّ هذه الصفات غائبة لبنانياً الآن في ضوء العجز عن الارتقاء إلى مستوى الأحداث التي بدأت بزلزال كبير وقع في العام 2003 عندما اجتاح الأميركيون العراق وقلبوا النظام القائم. فعل الأميركيون ذلك من دون بلورة بديل لمرحلة ما بعد صدّام حسين باستثناء خطوط عريضة لنظام جديد تبيّن أنّ لا مكان له في العراق الذي عاش منذ انقلاب العام 1958 في ظلّ العسكر أو ديكتاتورية البعث بما يمثّله من اجتياح لعقلية الريف للمدينة.
إقرأ أيضاً: من سيكون رئيسنا المقبل؟
ما نراه في المنطقة الآن هو نتيجة الخلل في التوازن الإقليمي الناتج عن سقوط العراق في يد إيران. يمكن أن يحدث قريباً تغيير في العمق على الصعيد الإقليمي بعدما بدأ المشروع التوسّعي الإيراني في التراجع.
هل في لبنان من يفهم ذلك؟ هل في لبنان من يفهم ما الذي يعنيه تشكيل مصطفى الكاظمي حكومة عراقية وإعادة الاعتبار إلى الفريق عبد الوهاب الساعدي الذي أصبح رئيس جهاز مكافحة الإرهاب والذي أزال صور قاسم سليماني من أماكن عدّة في مقدّمها مطار بغداد والدوائر الرسمية العراقية…
توجد ثلاث محطّات مرّ بها لبنان كان خلالها في حاجة إلى قيادة مستنيرة، فإذا به ضحية فكر عقيم غائب كلّياً عمّا يدور في المنطقة. الأكيد أن كلّ الطوائف اللبنانية وزعاماتها تتحمّل مسؤولية ما آل إليه لبنان. لكنّ المسيحيين، الذين اعتبروا أنفسهم دائماً أمّ الصبي الذي اسمه لبنان، ارتكبوا في المحطات الثلاث كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها وصولاً إلى محطة رابعة، هي مرحلة ضياع البلد في الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير.
هناك محطتان، من المحطات الثلاث، مرتبطتان بميشال عون رئيس الجمهورية حالياً الذي وافق على أن يكون رئيساً بصفة كونه مرشّح “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء لبناني في “الحرس الثوري” الإيراني. لم يفعل المسيحيون شيئاً من أجل الحؤول دون ذلك أو لفهم المترتّب على مثل هذا القرار إقليمياً ودولياً ولبنانياً. لم يكن هناك أيّ إدراك لخطورة أن يكون ميشال عون رئيساً، وذلك بغضّ النظر عمّا يدور في المنطقة من أحداث كبيرة.
كانت المحطة الأولى التي كشفت تراكماً للأخطاء المسيحية وغير المسيحية في العام 1970.
انتخب وقتذاك سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهورية. لم يستطع سليمان فرنجية، بثقافته المحدودة، فهم معنى التحوّلات الإقليمية في سنة مات فيها جمال عبد الناصر، وأصبح فيها حافظ الأسد الحاكم الأوحد لسوريا وخرج المقاتلون الفلسطينيون من الأردن … إلى لبنان. كان لبنان وقّع في تشرين الثاني 1969 اتفاق القاهرة المشؤوم الذي كان بمثابة تخلّ عن السيادة على جزء من الأراضي اللبنانية لمصلحة المسلّحين الفلسطينيين…
في المحطة الثالثة التي بدأت في السنة 2016، عندما انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، انتقل لبنان إلى “محور الممانعة”. حصل ذلك في وقت تتغيّر فيه المنطقة بوتيرة لا سابق لها
كان لبنان في 1970 في حاجة إلى رئيس للجمهورية يمتلك ثقافة تسمح له بأن يكون في مستوى الأحداث لبنانياً وعربياً وإقليمياً. لم يحدث ذلك. عندما التقى الرئيس اللبناني، هنري كيسينجر وزير الخارجية الاميركي في مطار رياق العسكري في العام 1973، أضاع سليمان فرنجية وقته في شرح خلفيات القضية الفلسطينية لكيسينجر. نظر وزير الخارجية الأميركي إلى المترجم الأميركي (وهو من أصل عربي)، وقال له: إنّه سيأخذ قيلولة طالباً منه إيقاظه عندما ينتهي سليمان فرنجية من مطالعته. وضع لبنان نفسه خارج اللعبة الإقليمية، خصوصاً ان طائرة وزير الخارجية الأميركي لم تستطع الهبوط في مطار بيروت.
كانت المحطة الثانية في العام 1988، عندما أصبح قائد الجيش ميشال عون رئيساً لحكومة مؤقتة مهمّتها محصورة في انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي غادر قصر بعبدا يوم انتهاء ولايته.
بدل أن يفعل العماد ميشال عون ما فعله قائد الجيش فؤاد شهاب في 1952 عند استقالة الرئيس بشارة الخوري، راح يعمل من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية. كان مرفوضاً سورياً… فراهن على صدّام حسين الذي أرسل إلى لبنان دبابات استخدمت في الحرب التي دارت بين الألوية العسكرية الموالية لميشال عون وبين “القوات اللبنانية”. حرّر ميشال عون وقتها المناطق المسيحية من المسيحيين.
في المحطة الثالثة التي بدأت في السنة 2016، عندما انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، انتقل لبنان إلى “محور الممانعة”. حصل ذلك في وقت تتغيّر فيه المنطقة بوتيرة لا سابق لها.
هناك تركيا التي تكرّس وجودها في الشمال السوري في ظلّ تفاهم مع روسيا. هناك حذر روسي من إيران بسبب عمق علاقتها بالصين. هناك تضايق وانزعاج روسي من بشار الأسد الذي دخل في مشاكل ذات طابع عائلي ومالي مع ابن خاله رامي مخلوف. هناك أزمة داخلية روسية بسبب كورونا وسعر النفط. هناك نوع من التفاهم على خطوط عريضة بين روسيا وأميركا في شأن سوريا… وهناك حكومة طوارئ في إسرائيل. تشكّل كلّ هذه الأحداث جزءاً من معادلة في غاية التعقيد تحتاج إلى رئيس لبناني يعمل 25 ساعة في 24 ساعة، وإلى رئيس للوزراء، غير حسّان دياب، يعرف ولو قليل القليل عن معنى انهيار النظام المصرفي اللبناني، وأن يكون لبنان معزولاً عربياً.
مسكين لبنان الذي لم يعرف المسيحيون فيه، قبل المسلمين، معنى أن يكون رئيس الجمهورية شخصاً في مستوى ما يدور في المنطقة من أحداث. يختزل سقوط لبنان ومأساته في السنة 2020 الفارق بين فؤاد شهاب وميشال عون، بين عالمين ليس ما يربط بينهما…