أوحى اجتماع اللجان النيابية المشتركة لبحث مسألة رفع الدعم وكأنّ السلطة فوجئت بالوضع المالي للبلاد. بل فوجئت بأنّ هناك دعماً يقدّم من احتياطات مصرف لبنان، وبأنّ الاحتياطات تكاد تنفد، وبأنّ نفادها يهدّد الشعب بالجوع.
السلطة العاجزة نفسها لجأت إلى أسهل الحلول قبل أربعة عشر شهراً، فأخلت مسؤوليتها من ملف الدعم وتركته في عهدة مصرف لبنان المفلس أصلاً، لينفق عليه من الدولارات القليلة المتبقّية من أموال المودعين.
وقف الدعم عن المحروقات ونصف السلة الغذائية وفواتير الخدمات وإبقاهؤ فقط للرغيف والدواء
المفجع أنّ السلطة نفسها تقول إنّ مصرف لبنان مفلس، وقدّمت حكومتها خطة في 30 نيسان الماضي قدّرت الثقب الأسود في ميزانيته بنحو 156 تريليون ليرة (45 مليار دولار وفق سعر الصرف المحدّد في الخطة عند 3500 ليرة)، ثم طلبت من ذلك المصرف المفلس الاستمرار بالإنفاق على الدعم. في الأشهر السبعة فقط منذ ذلك الحين فقدت احتياطات مصرف لبنان الأجنبية 9.4 مليار دولار. وإذا أضيفت الأشهر الأربعة السابقة منذ بداية العام حتى نهاية نيسان، يكون مجموع ما خسرته الاحتياطات في 11 شهراً نحو 12.3 مليار دولار.
ماذا تملك السلطة من خطة للأشهر الأحد عشر المقبلة؟ هل ستسمح لمصرف لبنان بتبديد 12.3 مليار دولار أخرى باسم منع الجوع؟ وكيف ستمنع الجوع بعد ذلك؟ هل ستخفض الاحتياطي الإلزامي مرة أخرى، إلى الصفر ربما؟ هل ستقول إنّ هذه المليارات تخص مودعين لا حاجة للحفاظ على ما تبقى من أموالهم؟
من يوقف الخطل في هذه الجمهورية البائسة؟
يحتاج لبنان إلى سنوات من الذلّ والعناء والتقشّف “ليشحد” من صندوق النقد الدولي والجهات المانحة نصف المبلغ الذي بدّده مصرف لبنان، ومن ورائه السلطة، على الدعم هذا العام فقط. لم يسائل أحد مصرف لبنان أين ذهبت المليارات؟ كيف تصرّف بها ولأيّ أولويات؟ فيما البلد بأمسّ الحاجة إلى المساعدة الخارجية لتمويل العجز في ميزانه الجاري وميزانيته وإعادة هيكلة مصرفه المركزي وقطاعه المصرفي. علماً بأنّ ما يقارب نصف الاحتياطيات المبدّدة لم يذهب للدعم، بل لتسديد استحقاقات للبنوك. وتلك قضية نعود إليها لاحقاً.
تبديد الدولارات الباقية ليس مجرّد جريمة في حقّ المودعين الذين لم يتبقّ من أموالهم سوى هذه الـ 15% المودعة كاحتياطي إلزامي في مصرف لبنان، بل إنّه بمثابة القضاء على كلّ ما تبقّى من أموال يمكن استخدامها في إطار عملية إعادة الهيكلة التي لا بدّ منها مستقبلاً، بعد أن تنتهي الطبقة السياسية من ألعاب الخفّة في تقاسم مقاعد الحكومة.
نقل ملف الدعم كاملاً إلى ميزانية الدولة والتوقف عن تبديد احتياطيات مصرف لبنان وأموال المودعين
القرار المسؤول في شأن الدعم لا يحتاج إلى كثير تنظير، ولا إلى العنتريات الحكومية. المسألة أشبعت بحثاً في العالم الغني كما في العالم الفقير، وما تقتضيه هو التالي:
1- إخراج ملف الدعم من يد مصرف لبنان تماماً، فهذا ليس من شأنه ولا ينبغي أن يُمنح من خلال سعر صرف مصطنع لليرة. وتلك هي الفاتحة لتحرير سعر الصرف وتوحيده، لتخليص البلاد من اختناق الأسعار المتعدّدة.
2- بدلاً من ذلك، يجب نقل ملفّ الدعم كاملاً إلى الحكومة ووزارتي المالية والاقتصاد، ليصبح مصدر الصرف عليه من الميزانية العامة، وليس من احتياطيات مصرف لبنان.
هذا في الأساس، أما في مضمون الدعم ووجهته، فحال لبنان تقتضي بالتحديد:
1- إلغاء كلّ أشكال الدعم غير المباشر للسلع والخدمات باستثناء بندين فقط هما: الخبز (الطحين) والدواء، وتكلفتهما الشهرية لا تتجاوز 100 إلى 120 مليون دولار، ويمكن خفضها بشيء من الرقابة واعتماد قائمة أكبر من الأدوية الجنيسية (generic)، وتشجيع التصنيع المحلي للأدوية.
2- إطلاق بطاقات مشتريات ذكية للأسر الأكثر حاجة، لتعويضها عن رفع أشكال الدعم الأخرى، تكون مماثلة تقنياً للبطاقات التي توزّعها مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) على اللاجئين السوريين.
إصدار بطاقات للأسر الأكثر حاجة شبيهة تقنيا بما توزّعه مفوضية اللاجئين على النازحين السوريين
يبدأ هذا المسار باعتماد لائحة العائلات الأكثر فقراً المتوفّرة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية بمساعدة مليون ليرة شهرياً، على أن تتولى إدارة الجيش اللبناني استقبال الطلبات الجديدة وتدرس مدى حاجة أصحابها لضمّها إلى لائحة الشؤون. إذ إنّ الجيش فضلاً عن انتشاره على كلّ الأراضي اللبنانية، لديه تجربة رائدة في الكشف على أضرار 50 ألف منزل بعد انفجار المرفأ في 4 آب الماضي. وبدأ بتوزيع التعويضات المقدرّة – ولو على قلّتها – على المنازل والمباني وبالليرة اللبنانية.
3- وقف الدعم للمحروقات وفيول كهرباء لبنان بالكامل، الذي تتراوح فاتورته بين أربعة وخمسة مليارات دولار سنوياً، بحسب تأرجح أسعار النفط العالمية. فهذا الدعم بالذات يستفيد منه الأغنياء وأصحاب الشركات والأعمال أكثر بكثير من الأسر الفقيرة، ببساطة لأنّهم أكثر استهلاكاً للوقود والكهرباء.
4- إلغاء نصف الدعم لسلّة السلع الغذائية التي كانت تكلفتها الشهرية تقارب 220 مليون دولار قبل تقليصها بنسبة 60% هذا الشهر. فتلك السلّة يذهب جانب كبير من الدعم المقدّم لها لصالح زيادة هامش ربح التجار، ويتسرّب 38 بالمائة منها للخارج مع المهرّبين. هذا فضلاً عن استفادة ميسوري الحال منها من دون تمييز بينهم وبين محدودي الدخل.
5- وبطبيعة الحال، لا بدّ أن يتوقّف مصرف لبنان عن توفير الدولار المدعوم لفواتير الخدمات والمرافق الحكومية، من اتصالات وتنظيف وصيانة ومطامر نفايات وغيرها، والتي تستنزف ما يقارب مئة مليون دولار شهرياً.
إقرأ أيضاً: “العهد” يصنع الحرب الأهلية المالية: الدعم من أموال المودعين
هذا الإصلاح كان ضرورياً منذ سنوات، وبات مسألة حياة أو موت عند انفجار الأزمة في 17 تشرين الأول 2019. لكنّ السلطة تهرب منه لسبب واضح، هو أنّها لا تريد أن تتحمّل مسؤولية توفير الموارد له، لأنّ توفير الموارد يتطلّب إقناع صندوق النقد الدولي والبنوك الدولية ومؤسسات التمويل بإقراضها، وهذا يتطلّب إصلاحاً لا تستطيعه السلطة ولا تجرؤ عليه ولا تريده. ولذلك، فإنّها تلجأ إلى الطريق الأيسر، وهو السطو، عبر مصرف لبنان، على مدخرات الناس المودعة في المصارف، وكثير منهم غير ميسوري الحال، أو باتوا كذلك بفعل السطو.
السلطة تبقي الدعم بيد مصرف لبنان لعجزها عن الإصلاح الضروري لتوفير الموارد
مصرف لبنان يوفّر التمويل للدولة منذ سنوات طويلة، خلافاً لقانون النقد والتسليف، وخلافاً لأبسط قواعد الحصافة، في لعبة فساد متبادلة. وحين بات عاجزاً عن ذلك، استخدم ما تبقى من الدولارات ذات التكلفة الخرافية، لإنقاذ السلطة من مهمة الإصلاح.
في الحلقة المقبلة عن رهن الذهب لتمويل سنة من الصبر على الجحيم اللبناني..