وقع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أسيراً في الفخّ الذي سبقه إليه سلفه إيهود أولمرت حين وضع لنصره شرطاً مستحيل التحقيق في حرب تموز 2006، وهو القضاء على الحزب، ووضع الحزب في المقابل عنواناً للنصر أسهل تحقيقاً، وهو الصمود.
انتهت الحرب بعدم تسليم الجنديَّين الإسرائيليَّين (القتيلين في عملية 12 تموز)، وبإطلاق رشقة من الصواريخ في اللحظة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، وكان ذلك كافياً لإعلان الانتصار.
لانتصار “حماس” شرطيّة وقّع عليها نتانياهو نفسه، وهي باختصار ألّا يسقط حكمها في غزّة، وأن يبقى الأسرى في قبضتها حتى اليوم الأخير من الحرب. ولذلك التراجع عن الاجتياح البرّي لم يعد ممكناً، لأنّه يعني انتصاراً صريحاً لـ “حماس”، لكنّ مخاطر الاجتياح البرّي على إسرائيل ليست أقلّ، بل إنّ صمود “حماس” بعده يمكن أن يكون أكثر ضرراً بسمعة إسرائيل العسكرية والدبلوماسية. ولذلك المطلوب من إسرائيل ليس إلا تحقيق إنجاز عسكري لا لبس فيه يرمّم صورة جيشها وهيبته الردعية.
في الإعلام الغربي كلام كثير عن اليوم التالي لوقف إطلاق النار على افتراض نجاح إسرائيل في إسقاط حكم “حماس”. وتسرد “وول ستريت جورنال” احتمالات ممكنة نظرياً، كلّها غير متاحة، منها الاحتلال الكامل أو ترك القطاع في الفوضى أو نشر قوات متعدّدة الجنسيات أو تسليمه للسلطة الفلسطينية أو “الترانسفير” إلى مصر. وتخلص في النهاية إلى أنّ إسرائيل ليست لديها خطّة. يقول مسؤول أميركي للصحيفة: “ليس من خطّة تحدّد من سيملأ الفراغ إذا دُمّرت “حماس”؟ تدمّر “القاعدة” فتحصل على “داعش”. وتدمّر “حماس” فتحصل على “حماس 2.0″”.
من الصعب التنبّؤ بما يخلّفه الميدان، لكنّ الأكيد أنّ تأخّر العملية البرّية أفقد إسرائيل الكثير من عناصر الزخم بعد مرور 11 يوماً على صاعقة السابع من أكتوبر
أزمة الغرب مع “حماس”
لكن ماذا لو صمدت “حماس”؟ ثمّة سؤال عمليّ يتعلّق بقدرة الغرب وإسرائيل على التعامل معها كطرف مؤهّل للتفاوض والحوار، بعدما بات القاموس الدبلوماسي والإعلامي الغربي يكثر من تشبيهها بالتنظيمات الجهادية الأكثر تطرّفاً، لا سيما “داعش”، وليس كتنظيم إسلامي له صفة تمثيلية ولديه قدر من الانضباط السياسي والعسكري.
هل من إمكانية لإعادة تأهيل “حماس”؟ يتوقّف الجواب إلى حدّ بعيد على الميدان، لا على “المبادئ” الأخلاقية الغربية. فإذا ما صمدت الحركة فسيضطرّ الغرب إلى التفاوض معها لتحرير الأسرى، وإلى انتهاج مقاربة جديدة للتعامل معها كسلطة أمر واقع في غزّة. وعندئذٍ لا بدّ من البحث في الإطار السياسي الإقليمي عندما تضع الحرب أوزارها.
من الصعب التنبّؤ بما يخلّفه الميدان، لكنّ الأكيد أنّ تأخّر العملية البرّية أفقد إسرائيل الكثير من عناصر الزخم بعد مرور 11 يوماً على صاعقة السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ففي الجبهة الداخلية بدأت بوادر التشقّق السياسي بالظهور، وخرج رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك متشكّكاً في قدرة الطاقم الحاكم على قيادة المعركة، وبدأت أصوات أهالي الأسرى لدى “حماس” ترتفع في الشارع مطالبة باهتمام أكبر بمصيرهم.
الغطاء بلا تحفّظ
على المستوى الخارجي، صرفت إسرائيل الكثير من رصيد “الغطاء بلا تحفّظ” الذي حصلت عليه في الأيام الأولى من واشنطن والعواصم الأوروبية، وباتت تغطية الفضائيات العالمية، بما فيها “سي إن إن” و”فوكس نيوز”، تفرد المساحة الأكبر لمشاهد الموت والدمار في غزّة، وباتت هناك حاجة إلى تدخّل المذيع للتذكير بقصّة “المأساة” الإسرائيلية التي تراجعت إلى الصفّ الثاني.
قد يبدو أنّ التحوّل أبطأ على مستوى الخطاب السياسي، أقلّه من حيث إنّ الدعم الأميركي لإسرائيل ما يزال مطلقاً. لكنّ مضمون الحركة الدبلوماسية الأميركية تغيّر في العمق بعد جولة وزير الخارجية الأميركي المكّوكية في المنطقة، وسيظهر أثر ذلك حين تحطّ طائرة الرئيس جو بايدن في إسرائيل غداً.
أتى بلينكن بحشرجة صوته الحزين وانتمائه اليهودي المتقدّم على منصبه، ليعرض أجندة محدّدة تطالب الدول العربية بإدانة هجوم “حماس” ودعم الحرب الإسرائيلية للقضاء عليها، واستقبال النازحين الفلسطينيين في سيناء المصرية، بالإضافة إلى السعي إلى إطلاق الأسرى الأميركيين، وتأمين خروج المواطنين الأميركيين من قطاع غزّة عبر معبر رفح.
حين عاد بلينكن إلى إسرائيل بعد جولته على ستّ عواصم عربية، كانت الأجندة الأميركية قد تغيّرت تماماً. أقرّ الرجل بسقوط فكرة إقامة مخيّم للّاجئين في سيناء على غرار مخيّمات اللجوء السوري في تركيا، على الرغم من أنّ مسؤولين إسرائيليين ما يزالون ينادون بالفكرة ويدافعون عنها، وحلّ بدلاً منها حديث أميركي عن “مناطق آمنة” داخل غزّة. واضطرّت الإدارة الأميركية إلى تقديم “الوضع الإنساني” في غزّة ضمن قائمة أولوياتها المحدّثة، وتجسّد ذلك بتعيين ديفيد ساترفيلد مبعوثاً أميركياً خاصاً للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط. بل إنّ بلينكن بدأ للمرّة الأولى يسائل إسرائيل عن “كيفية” تنفيذ “حقّها بالدفاع عن نفسها”، ويدعوها إلى الالتزام بالقيم المشتركة.
الأهمّ من كلّ ذلك أنّ بايدن وبلينكن وجدا نفسَيهما مضطرّين إلى تأكيد التزام واشنطن بحلّ الدولتين، وهو التزام شطبته الإدارة الأميركية السابقة في “صفقة القرن”، واستبدلته بـ “مسار” مشروط نحو إقامة دولة فلسطينية ليس لها شيء من عناصر السيادة وقابلية الحياة.
لم يكن هذا التبدّل ليظهر لولا الموقف العربي الذي واجهه بلينكن. اصطدم الرجل بقائمة مطالب في رأسها وقف التصعيد، وإسقاط مشروع التهجير من غزّة، وصولاً إلى الدعوة المصرية إلى مؤتمر للسلام، بل إنّ السعودية ذهبت إلى ما هو أبعد بوقفها محادثات التطبيع، مع معرفتها بأهميّته لبايدن الطامح إلى تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير في السنة الأخيرة من ولايته.
الملفّ الفلسطينيّ في الإطار العربيّ
أعادت هذه التطوّرات الملفّ الفلسطيني إلى الإطار العربي، بعدما كان رهناً لمقاربتين:
– مقاربة إسرائيلية تروّج منذ سنوات لمقاربة تُخرج القضية الفلسطينية من أن تكون لبّ “الصراع العربي الإسرائيلي” والشرط الضروري لإنهائه.
– مقاربة إيرانية تجعل منه ورقة من أوراق النفوذ والتفاوض.
ما زالت وقائع الميدان مفتوحة على احتمالات كثيرة لا يُستثنى منها التدحرج نحو انخراط إيراني أكبر عبر الحزب إذا ما شعرت طهران أنّ الورقة الفلسطينية تفلت منها تماماً، لكنّ الوقائع، حتى اليوم، تؤكّد أنّ الحدث الفلسطيني ليس من حياكة إيرانية هذه المرّة، وأنّ شعار “وحدة الساحات” لم يُثبت مصداقيته، في ظلّ الحرص الإيراني على عدم التضحية بالصفقة التي توصّلت إليها مع واشنطن لتخفيف العقوبات من دون إعلان ذلك رسمياً، مقابل الالتزام بعدم تجاوز سقف معيّن في تخصيب اليورانيوم.
لا يغطّي على ذلك التناوش المضبوط بقواعد محدّدة للاشتباك في جنوب لبنان والدعاية الفارغة لتجهيز الفصائل المرتبطة بإيران في العراق ودول أخرى للانضمام إلى الحرب! ويبرز في هذا الصدد تصريح لافت للقيادي موسى أبو مرزوق حين سئل في مقابلة تلفزيونية عن التنسيق مع “فصائل محور المقاومة”، إذ قال حرفيّاً: “للأسف، لا يوجد تنسيق”، ثمّ أردف: “أقولها بكلّ صراحة، كنّا نتوقّع أن يكون التفاعل مع الحدث أكثر كثيراً ممّا جرى اليوم”.
لا يكفي ذلك لفصل “حماس” عن المحور الإيراني، ففي داخل الحركة جناح كبير متحمّس للعلاقة مع طهران، والتنظيم برمّته معتمد على إيران في التسليح والتمويل.
إقرأ أيضاً: غزّة وفلسطين والأمل الذي لا شفاء منه
إلا أنّ نطاق الحراك الدبلوماسي أعاد القضية الفلسطينية إلى الإطار العربي، وهذا ما يبدو أنّ “حماس” تتعامل معه بواقعية. ومن مفاعيل هذا الحراك أنّ القضية الفلسطينية استعادت مركزيّتها في أيّ مسعى أميركي لتحريك عملية السلام، حتى لو كان ثمن ذلك إزاحة اليمين الإسرائيلي المتطرّف من المشهد. كما سيكون من مفاعيله أنّ السعودية ستكون أكثر قدرة على فرض إيقاعها على مسار التطبيع مع إسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من إعادة المقعد الفلسطيني على الطاولة.
ثمّة سؤال طرحه وليد جنبلاط على الحزب في الساعات الأخيرة من “حرب تموز”: لمن يهدي انتصاره؟ من المبكر التفكير في سؤال مماثل لـ “حماس” قبل أن يبدأ الاجتياح البرّي، لكنّ السؤال غير المنقطع يبقى عن استعداد “حماس” للانخراط في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني والاستعداد لمرحلة تعود فيها القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@