أربعة رؤساء حكومات، اجتمعوا بقدّهم وقدودهم، للقول، ولو بشكل موارب، إنّ محمد بعاصيري خطّ أحمر. هذا ما فهمناه وفهمه العوام، أقلّه بعد تلويح سعد الحريري باستقالته وكتلته من مجلس النواب، ما لم يُؤخذ برأيه في موضوع التعيينات التي تطال نوّاب حاكم مصرف لبنان وغيرها من المواقع المالية التي لن تُقدّم قيد أنملة أو تؤخّر.
أصل البيان وشكله ومضامينه لا يتناسب وهذه الخلاصة، إذ إنّه يستند إلى فكرة الإطباق السياسي الخبيث على المواقع، وهو إطباقٌ مكشوف الهوية ومعروف الغاية والأهداف. وهذا بحدّ ذاته كلام يندرج في سياق المماحكات اليومية، التي تفرض المراقبة والمتابعة الحثيثة لكلّ شاردة وواردة، انطلاقًا من الوظيفة الطبيعية لأيّ معارضة، وصولًا إلى الحساسية اللبنانية المفرطة التي تختزلها المعادلة السياسية بكلّ أبعادها، لا سيما تلك التي تتعلّق بما اصطلح على تسميته: مكتسبات الطوائف والمذاهب.
إقرأ أيضاً: برّي و”التشاوري” يحميان مواقع السنّة في الإدارة
لكن لماذا شعرنا وشعر معنا الجميع بأنّ هذا البيان جاء بعيدًا من السياقات الواقعية ومن المهمّة الجزيلة التي لا بدّ أن يحملها رؤساء الحكومات باعتبار أنّهم المدماك الأخير الذي قد يؤسّس لمسارات جديدة. هذا في ظلّ اضمحلال الأمل وانعدام الأفق والتصحّر الملحوظ والمتعاظم في المعادلة الوطنية، إزاء التضخّم غير المسبوق للخطاب والكينونات الطائفية والمذهبية على حساب الفرادة اللبنانية التي أردناها وأرادها المؤسّسون الكبار، رسالةً للتنوّع والحياة لا مدخلاً للتقاسم والتحاصص أو سببًا للتحارب والبغضاء.
وظيفة رؤساء الحكومات السابقين في هذه الفترة العصيبة لا تقتصر على الإبلاغ وتسطير البيانات، بل تتعدّاها إلى واجب تاريخي ومهمة استثنائية تواكب الانهيار الشامل على كلّ المستويات، والذي قد يلامس عتبة المجاعة القصوى وانحلال العقد الاجتماعي والسياسي، بحيث نعود جميعًا ألف سنة إلى الوراء. هناك حيث يتذابح الناس ويحتكم اللبنانيون إلى غرائزهم ورغباتهم وأمنهم الذاتي، لا إلى قانون أو شرائع أو دولة تحتضنهم وتحميهم.
كان الأجدى برؤساء الحكومات، وبعضهم من أصحاب الملايين والمليارات، أن يبادروا إلى إطلاق حملات مكثّفة لمساعدة الناس ونجدتهم في هذه الظروف الدقيقة التي فرضت على المواطنين إغلاق أبواب أرزاقهم والتكدّس في بيوتهم. كان الأجدى بهم أيضًا أن يجوبوا العالم بحثًا عن مساعدات وهباتٍ وودائع تنقذ البلاد قبل انهيارها برمّتها على رؤوس ساكينها. دورهم أكبر بكثير من مجرّد بيان وموقع وتعيينات تدخل كلّها في إطار الاشتباكات السياسية والثأر الشخصي بين مستفيدين جمعتهم تسوية المناصب والمنافع والتقاسم، وفرّقتهم الصغائر عينها.
ألم يخبروكم عن الذلّ الذي صار جزءًا لا يتجزّأ من يومياتهم على أبواب المستشفيات التي جعلت منهم وسيلة للنهب والاسترزاق؟ وصولًا إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم في دولة لم يتأخّروا يومًا عن دعمها ومساندتها والإيمان بمشروعها حتّى الرمق الأخير
كان الأجدى بهم، أيضًا وأيضًا، أن يسارعوا إلى تقديم رؤية سياسية جديدة وعصرية وشاملة تواكب تطلّعات اللبنانيين وأحلامهم عقب انتفاضتهم المحقّة وثورتهم الجليلة، بدل الاكتفاء بالمراقبة والتلهّي بتسجيل النقاط، وكأنّ هذه البلاد برمّتها باتت تفتقر لصنّاع الأمل وصارت تبحث عند كلّ منعطف عن رجل رشيد.
ها هي عكّار وأخواتها من مناطق الفقر والقهر والحرمان، أليست أولى بجهودكم وأصواتكم وبياناتكم يا دولة الرؤساء؟
أين أنتم من وجع الناس ومعاناتها اليومية مع المرض والعوَز والهوان؟
ألم يخبروكم عن الذلّ الذي صار جزءًا لا يتجزّأ من يومياتهم على أبواب المستشفيات التي جعلت منهم وسيلة للنهب والاسترزاق؟ وصولًا إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم في دولة لم يتأخّروا يومًا عن دعمها ومساندتها والإيمان بمشروعها حتّى الرمق الأخير.
هذه المناطق لطالما كانت وفية لكم جميعًا عند كلّ مفترق أو استحقاق، وهي تستحقّ منكم أكثر بكثير من حماية شخص أو موقع، مهما علا شأنه أو ارتفع. هذه المناطق لم تطالب يومًا بأن تلوّحوا باستقالاتكم لأجلها، وظلّت صابرة محتسبة إلى جانبكم في غمرة التحدّيات والصعاب. هي تسأل خاطركم بخجل بينما يُقدّم لها أحدكم مائة مليون ليرة، أي ما يعادل 33 ألف دولار.
لعكّار وأهلها وجوارها وكلّ أترابها من وداي خالد، إلى طرابلس والتبانة وبيروت وصيدا والبقاعين، وعرسال، لهم ربٌ يحميهم، ولكم الصلاحيات والمواقع وحقوق السُنّة ومعهم محمد بعاصيري و”…”.