لقاء البابا مع الشبيبة العالميّة: غاب لبنان

مدة القراءة 6 د


عنوانان توّجا لقاء البابا مع الشبيبة العالميّة في العاصمة البرتغالية لشبونه الأسبوع الفائت النسخة الـ 17 من “أيام الشبيبة العالميّة”. وهي الأولى بعد جائحة كورونا. الأول، ملف وقف التسلح، والثاني حماية البيئة.
اللقاء جمع الشبيبة المسيحيّة الكاثوليكيّة وشباب من مختلف الكنائس والأديان. أتوا من كل القارات والبلدان ما عدا لبنان الذي غاب للمرّة الأولى بعدما حوّلهم جحيم السياسة إلى نزلاء في سجن كبير في الوطن الصغير، أو باحثين عن مستقبل لهم في دول ومجتمعات أخرى.

البابا الشابّ
كعادة البابوات منذ ثمانينيات القرن الماضي، حضر البابا فرنسيس وألقى العظات والخطابات. تنقّله على كرسيّ متحرّك لم يعيقه عن الذهاب. الرجل الذي يقترب من نهاية عقده الثامن بدا شابّاً في العقد الثاني من العمر، ببسمته، وحماسته، وبريق عينيه، والأهمّ بخطاباته الجريئة المتميّزة بالبراءة والعفويّة. إنّها شخصية الرجل.
تطرّق فرنسيس في خطاباته وعظاته إلى العديد من المواضيع. كلّها تحاكي المستقبل، مستقبل الشباب. فهؤلاء “مستقبل العالم ورجاء الكنيسة”، كما قال عنهم البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني قبل أربعة عقود. إنّه لهم. هم بُناته. لذلك تنظّم الكنيسة الكاثوليكيّة لقاء الشبيبة العالميّة. لم تسمِّه “لقاء الشبيبة المسيحيّة” لأنّ الهدف منه مواكبة الشباب ليس فقط في حياتهم الإيمانية، إنّما في حياتهم العالميّة. كيف بدأت هذه اللقاءات؟

لم يتطرّق البابا في لقاءاته مع الشبيبة العالميّة مباشرة إلى الحرب في أوكرانيا. بيد أنّها حضرت في خطاباته وصلواته

تاريخ “أيّام الشبيبة العالميّة”
بدأت القصّة سنة 1984 التي كرّستها الكنيسة الكاثوليكيّة سنة “الخلاص”. أراد البابا يوحنّا بولس الثاني أن يخصّص يوماً فيها للشباب. وحدّد يوم أحد الشعانين. تحرّكت الإدارة الفاتيكانية واستعدّت لاستقبال 60 ألف شابّ. وإذ بعددهم يقارب 300 ألف.
العام التالي (1985) أعلنت منظمة الأمم المتحدّة أنّه عام الشباب. وللمناسبة دعا البابا إلى لقاء في روما يجمع الشبيبة. وكان أيضاً يوم أحد الشعانين. فقارب عددهم 450 ألفاً. لمس البابا القدّيس، بحدسه القياديّ، رغبة الشباب بالتواصل مع الكنيسة، سماع صوتها وإسماع صوتهم لها. فقرّر تأسيس “أيام الشبيبة العالميّة”. اللقاء التالي كان في 1997 في بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين. كانت البلاد قد تحرّرت حديثاً من النظام الديكتاتوري الذي لم تسلم منه الكنيسة. بلغ عدد المشاركين مليوناً. كان خورخي برغيليو قد أصبح رئيس أساقفة المدينة. نظّم اللقاء وعاش حماسة الشباب.
أكبر اللقاءات كان في مانيلا، عاصمة الفيليبين (1995). بلغ عدد المشاركين 5 ملايين. وفي بولندا (2016) بلغ عددهم 3 ملايين. رأسه البابا الحالي في بلد البابا القدّيس. حتى في باريس (1997)، عاصمة العلمانيّة في العالم، بلغ عدد المشاركين 1.2 مليون. هذا يؤكّد أنّ هذه اللقاءات لا تحاكي الشبيبة في حياتهم الدينيّة فقط، إنّما في مختلف تساؤلاتهم الحالية والمستقبليّة.

مواكبة الشباب في قضايا العصر
ما أكثر تساؤلات الشباب منذ ثمانينيات القرن الماضي. فهم يعيشون أسرع تبدّل شهدته البشريّة في تاريخها، وطال مفاهيمها وحضاراتها وثقافاتها وتقاليدها… إنّه عصر الثورة التكنولوجيّة، الأسرع في التاريخ. ثورة لم تنحصر في عالم المال والأعمال، إنّما طالت حياة الإنسان في كلّ جوانبها:
– كمبيوتر حلّ مكان القلم والورقة في كلّ استعمالاتهما واستبدل المكتبات، وإنترنت اختصر المسافات بين الشعوب وجعل التواصل يتمّ بلحظة، وإعلام تحوّل رقمياً، ومواقع تواصل قدّمت مساحات حرّيّة للتعبير، غالباً من دون ضوابط…
– عولمة أزالت الحدود بين الدول والمجتمعات. تلاقت الثقافات والحضارات. وهيمنت بعضها على البعض الآخر.
– تبدّل العديد من المفاهيم الاجتماعيّة تحت مسمّى “الحرّيّة”: زواج المثليين، الحقّ في الإجهاض،… والآن تطرح بعض المجتمعات والدول حرّيّة اختيار الجنس، بحيث لن يعود أكيداً أنّ “الشابّ شابّ، والبنت بنت”، كما نظّر معمّر القذافي في “الكتاب الأخضر”.
– تبدّلت حرارة الأرض. وتغيّر المناخ. فبات مستقبل الأرض وما عليها مصدر قلق عالميّ.

اللقاء جمع الشبيبة المسيحيّة الكاثوليكيّة وشباب من مختلف الكنائس والأديان. أتوا من كل القارات والبلدان ما عدا لبنان الذي غاب للمرّة الأولى بعدما حوّلهم جحيم السياسة إلى نزلاء في سجن كبير في الوطن الصغير

حماية البيئة
هذه القضيّة الأخيرة حضرت بقوّة في لقاء البابا فرنسيس مع الشبيبة في لشبونة. فموضوع حماية البيئة يطبع حبريّته منذ بدايتها.
في احتفال تنصيبه رئيساً على الكنيسة الكاثوليكيّة (2013) دعا فرنسيس “كلّ من لديه منصب مسؤول في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى النهوض بدور الحماية في الكون”، حماية البيئة والإنسان الذي يعيش فيها، خاصة الضعيف. وبعد سنتين أصدر رسالة مجمعيّة (2015) بعنوان “كن مسبّحاً” خصّصها لموضوع البيئة، “البيت المشترك” لنا جميعاً.
في لشبونة حيّا البابا الجهود الدوليّة المبذولة في هذا المجال، ودعا قادة العالم إلى الاستثمار أكثر في هذا المجال بدل الاستثمار في الحرب.

“الإمبرياليّة” في الحرب الأوكرانيّة
لم يتطرّق البابا في لقاءاته مع الشبيبة العالميّة مباشرة إلى الحرب في أوكرانيا. بيد أنّها حضرت في خطاباته وصلواته. فهو ذكّر الأوروبيين بإنجاز الاتحاد الأوروبي، الذي تأسّس في القرن الماضي، وأعطى أمثولة للعالم في المصالحة والسلام وبناء المستقبل وازدهار الشعوب. وانتقدهم، كما غيرهم من الدول، في تطوير الأسلحة قائلاً إنّه “ليس استثماراً من أجل المستقبل”.
الفاتيكان قلق جدّاً من زيادة الميزانيات العسكرية في العديد من الدول، خاصة في أوروبا، وهي زيادة غير مسبوقة منذ ثلاثة عقود، بحسب “معهد استوكهولم للأبحاث من أجل السلام العالميّ”. فقد ارتفعت بنسبة 0.9% بين عامَي 2021 و2022. والسبب هي الحرب في أوكرانيا التي وصفها البابا بـ “العبثية والقاسية”، وتقف خلفها “مصالح إمبريالية، ليس فقط للإمبراطورية الروسيّة، بل لإمبراطوريات الأطراف الأخرى”.

إقرأ أيضاً: فرنسيس.. بابا الفقراء: لبنان الفقير يحتاجُه

سيكون الموعد المقبل للبابا في مدينة مرسيليا الفرنسيّة (22 و23 أيلول المقبل) على الضفّة الشمالية للبحر المتوسّط الذي يشكّل فاصلاً بين الشمال والجنوب، وشاهداً على الصراعات وسياسات الاستعمار منذ قرون، والذي تحوّل “مقبرة” للمهاجرين الهاربين من جحيم بلدانهم والباحثين عن مستقبل في “القارّة العجوز”، والذين ستزيد أزمة النيجر عددهم، وحتماً عدد الغارقين منهم.
سنكون على الموعد مع هذا اللقاء في “أساس”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…