أيام معدودة فصلت ما بين هرطقة لجنة المال والموازنة الدستورية والقانونية في اقتراح قانون الـ”كابيتال كونترول” والـ”سكيزوفرينيا النقدية” في البنك المركزي ومعه المصارف التجارية في تحديد سقوف السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية… وبعيداً من التوغّل في تفاصيل ابتكارات لجنة المال والموازنة (الراغبة في مسايرة صندوق النقد الدولي) المتأخرة في ضبط التحويلات إلى الخارج، فيما البنوك مفلسة ومديونة لنظيرتها المراسلة، تظهر عقدة أخرى هي تلك التي فجّرها الـ”سيستام” المصرفي.
إقرأ أيضاً: المصارف للمقترضين: هاتوا دولاراتكم!
لم تنتظر حاكميّة مصرف لبنان حتى يصبح سارياً الـ”الكابيتال كونترول”، تلك الأعجوبة الكنعانيّة، بل هرولت إلى تلقّف المادة الثالثة منه، التي تنصّ على “ترك مهمّة تحديد سقوف السحوبات النقدية للمركزي”. هكذا اذاً، أعلن مصرف لبنان عن نيّته تقنين الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية للمصارف. فسارعت الأخيرة إلى تحجيم سحوبات المودعين والمُدّخِرين. هذه اللعبة المالية بمثابة “إنفصام ماليّ”، فتارة تضّخ حاكميّة البنك المركزي العملة على نحو هستيريّ في السوق لتضخيم حجم الكتلة النقدية، وطوراً تعتزم شفط هذه الأموال لتقليلها. وفي كلا الحالتين “انتقام” من اللبنانيين الضائعين في كثرة التعاميم والقرارات المالية الغامضة، و”دَوسٌ” على متطلباتهم وحاجاتهم وواقعهم المالي.
في بيانه، أوضح بنك لبنان المركزي آلية التحديد على أساس أنّ “وضع سقوف للمصارف يتمّ وفقاً لما يُمكن أن تَسحب من سيولة من حسابها الجاري لدى مصرف لبنان. وعند تخطي هذه السقوف من الحسابات المحرّرة تُحتسب المبالغ المطلوبة من حسابات المصارف المجمّدة. لذلك ليس هناك أي سقف للمبالغ الممكن سحبها من مصرف لبنان، ما يعني أنّه من يمكن السحب من الحساب الجاري إلى حدّ سقف معيّن، وما يفوق هذا السقف يكون من مردود شهادات الإيداع أو من فوائد الودائع لأجل، أي تلك المجمّدة”.
بالطبع المصارف لن تتحمل أي أكلاف إضافية في حال تخطّى الطلب السقف المحدد، ففضّلت خفض تحويلات المودعين فوراً ومسبقاً مع الإشارة الى أنّ تعديل سقف كل مصرف يتم استنادا إلى معدل السحوبات خلال الأشهر الستة الماضية.
البنوك وعدا عن كونها تمتنع عن تسليم الأوراق النقدية، تقوم بوقف كل طرق التعامل ووسائل الإيفاء والدفع بين الناس، وهي سبق أن وضعت سقوفاً لبطاقات الائتمان كما ولبطاقات الحسابات الجارية، ثم بدأت تلزم الناس بمصاريف على القروض دون أيّ وجه حقّ
ظاهرياً تسعى هذه اللعبة إلى تنشيف السيولة لكبح سعر الدولار في السوق السوداء. الا أنّ هذه الآلية من شأنها أن تخلق، وعلى غرار معضلة الدولارات “الحقيقية” وتلك الدفترية (في حسابات المصارف وغير القابلة للاستخدام)، ليرات “fresh” وأخرى وهمية. أي أنّ “النقود” الموجودة في البنوك، ستفقد المزيد من القيمة لعدم قابليّتها للاستخدام.
عن استنسابية المصارف وعدم قانونية قراراتها ترى الباحثة في القوانين المالية والمصرفية الدكتورة سابين الكيك أنّه “قبل الحديث عن بدعة التقنين، يجب الانطلاق من الخزعبلات المصرفية. فالبنوك وعدا عن كونها تمتنع عن تسليم الأوراق النقدية، تقوم بوقف كل طرق التعامل ووسائل الإيفاء والدفع بين الناس، وهي سبق أن وضعت سقوفاً لبطاقات الائتمان كما ولبطاقات الحسابات الجارية، ثم بدأت تلزم الناس بمصاريف على القروض دون أيّ وجه حقّ، ومنعت التحاويل، ثم وضعت حدوداً وقيوداً للتداول بالشيكات المصرفية. وإلى ذلك فهي أحجمت عن فتح حسابات جديدة. هكذا، يخنق القطاع المصرفي الشعب اللبناني. لذا فإنّ الأزمة لم تعد تقتصر على السيولة النقدية بل باتت تتخطاها بكثير، من هنا يجدر العودة إلى اجتهاد مجلس شورى الدولة المتعلق بالسلامة النقدية والأمن والنظام العام النقديين، لما من شأن هذا الخلل أن يحدث اضطرابات اجتماعية وأمنية. لأنّ القدرة الشرائية باتت متحلّلة. وحالة الفُصام النقدي التي نعيشها ستؤدي إلى احتقان نتائجه أكثر من كارثية”.
أما الخبير المالي وليد أبو سليمان فيوضح في اتصال مع “أساس” أنّ “المركزي قد ضخّ منذ بداية العام وحتّى مطلع شهر تشرين الأول الحالي حوالى 13 ألف و180 مليار و140 مليون ليرة، بما يشكّل زيادة لكتلة النقد بالليرة بنسبة 125 %. هذا وبلغ حجم الأموال المتداولة خارج مصرف لبنان، أي التي طبعها المركزي حتى مطلع شهر تشرين الأول 2020، نحو 23 ألفاً و700 مليار ليرة، في حين كانت الكتلة النقدية المتداولة بالليرة مطلع العام 2019 نحو 5860 مليار ليرة أي بزيادة نحو 300 %، وهذا ما يفسّر كيف أنّ طباعة الليرة وضَخّها بالسوق يؤثران سلباً على سعر الصرف”.
يتمثّل تجفيف السيولة، وفقا لمخطط “المركزي”، في إرغام الناس على العودة إلى المصارف الفاقدة للثقة. لكنّ ذلك لا يمكن أن يتم راهناً. فمعدل المعاملات المصرفية (الأشخاص الذين لديهم حسابات بنكية) منخفض للغاية، وبالتالي فإنّ غالبية المودعين ليس لديهم شيكات وبطاقات ائتمان. وبدون نقود ورقية
لكن بعدما وصل حجم الكتلة النقدية إلى مستويات جنونية، قرّر مصرف لبنان الحدّ من التداول بالعملة الوطنية. الهدف من هذه الخطوة تطويل أمَد السيولة المتبقية بالعملات الأجنبية، والتخفيف من الطلب على الدولار. فمن لا يملك أموالاً نقدية بالليرة اللبنانية لن يتمكن من التهافت إلى السوق السوداء لشراء الدولار. لكن فات المركزيّ أنّ لهذه التدابير تداعيات خطرة كزيادة الانكماش وتخفيف الاستهلاك ومفاقمة أزمة الدواء والمحروقات. وبما أنّ التجّار المتعطشين إلى الأموال النقدية لن يقبلوا إلا الـ”كاش” كوسيلة دفع، وبما أنّ تأمينهم لهذه الأموال سيكون صعباً، فذلك يعني فقدان الكثير من السلع. بمعنى أبسط: نقود أقل تعني استيراداً أقلّ وبالتالي منتجاتٍ أقلّ”.
يتمثّل تجفيف السيولة، وفقا لمخطط “المركزي”، في إرغام الناس على العودة إلى المصارف الفاقدة للثقة. لكنّ ذلك لا يمكن أن يتم راهناً. فمعدل المعاملات المصرفية (الأشخاص الذين لديهم حسابات بنكية) منخفض للغاية، وبالتالي فإنّ غالبية المودعين ليس لديهم شيكات وبطاقات ائتمان. وبدون نقود ورقية.
ظاهرياً، يهدف المخطط إلى لجم تهريب السلع المدعومة. لكن ذلك سيكون عبر خلق ليرة مصرفية سعرها في السوق أقلّ من تلك النقدية، تماما كالفرق بين الدولار النقدي والدولار المحتجز. إلى ذلك، فهو يسعى الى أن يفرض على الأفراد والشركات الذين خزنوا دولاراتهم، إخراجها وضخّها في السوق، ليتمكن هو من امتصاصها. فمطلع الأسبوع الماضي كان مصرف لبنان قد أعلَم الشركات المستوردة للمستلزمات الطبية والأدوية والمحروقات بضرورة تأمين المبلغ المدعوم بالليرة اللبنانية نقداَ. لكن ما سيحدث هو جعل المستوردين (الذين يحتاجون إلى نقود للدفع لمصرف لبنان) يرفضون استيفاء أثمان المواد عبر بطاقات الائتمان والشيكات. وبالتالي ستصبح ندرة المنتجات هي القاعدة…وصولاً إلى الانفجار الشعبي الكبير. فهل هذا ما تريده المنظومة المصرفية؟