لست مفتيّاً ولا قاضياً ولن أكون

مدة القراءة 7 د


انزعج كثر من مقالتي في “أساس” عن “المرض الجهادي” المزمن. واعتبر الصديق قاسم قصير أنّه كان يعتبرني مؤهّلاً للفتوى وقد تبيّن له أنّه أخطأ بعدما قرأ المقالة. لكنّ آخرَ سمّى نفسه ناشطاً سياسياً أفاد من اللقب الخطأ الذي أطلقه عليّ قاسم قصير فعمَّمه حتى صرتُ مفتياً للديار العربية واستئصاليّاً والعياذ بالله. أنا متخصّص في الدراسات الإسلامية لكنّني لستُ مفتياً ولا قاضياً ولن أكون. قد كتبتُ كثيراً في الظواهر العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة وما عملتُ لأحدٍ ولا كتبتُ لمصلحة طرفٍ، سواء أكان نظاماً أو تنظيماً. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي وأنا أتحدّث وأتناقش مع أنصار للتنظيمات باستثناء تنظيمَي القاعدة وداعش. وبين زملائي وتلامذتي السابقين متعاطفون مع التنظيمات ويلومونني أحياناً على عدم الثقة بالتنظيمات والخوف منها وعليها في الوقت نفسه.
لقد أوضحت في مقالاتٍ سابقةٍ بـ”أساس” وبصحيفة الشرق الأوسط أسباب عدم حماستي لعملية حماس بسبب المآلات المشهودة ومنها عشرات آلاف القتلى والجرحى وخراب العمران وتهجير الملايين من جانب الصهاينة، والتوحّش بكلّ أشكاله.

كيف ينظر الفقيه؟
ولكي لا يظنّ الأخ قاسم ومناصروه أنّني لا أعرف الفقه معرفةً معقولة أنبّههم إلى مقال كتبتُه يوم الجمعة الماضي بصحيفة الشرق الأوسط قلت فيه إنّ الفقيه عندما يريد أن يصدر حكماً في مسألة ينظر في أمرين: المشروعية أو الدليل، والمآل والحكمة في ما يترتّب على “الفتوى” من عواقب وآثار. فإذا نظرنا في العلّة أو المشروعية فإنّ هجوم حماس مشروع ففلسطين محتلّة، وغزة محاصَرة، والإسرائيليون ماضون في التجريف للشعب والأرض، ولا حلَّ بديلاً في الأفق. إنّما لو نظرنا في الآثار أو الحكمة لوجدنا أنّه ما كانت هناك حكمة في العملية لأنّها تسبّبت في حرب إبادةٍ واستئصال، على الرغم من الفوائد الجزئية المتمثّلة في التنبيه إلى غفلة العالم وربّما تآمر كبار دوله على القضية الفلسطينية. وليس بالوسع القول إنّ حماساً والجهاد لم يتوقّعا ما حصل مثلما لم يتوقّع السيد نصر الله عام 2006 ما حصل من حربٍ مدمّرة بعد هجوم الحزب آنذاك. فقد سبق لهم أن خاضوا حروباً مع إسرائيل منذ عام 2008 وكانت هجماتهم وقتها مقصورة على إطلاق الصواريخ من القطاع، وكانت النتائج دائماً مدمّرةً على المدنيين وعليهم بالطبع. ولذلك فإنّ تكرار التجارب بنفس السعة وأكبر يعرف الجميع ومن لا علاقة مباشرة له ولدى التنظيمات أكثر أنّ العواقب ستكون سيّئةً جداً.

ليس هناك عربي أو مسلم أو إنسان رشيد إلّا وهو ضدّ ما يفعله الإسرائيليون. وقد تعلّل كثيرون في الأيام الأولى أنّ الكرامة كانت تستحقّ، وأنّ لكلّ تحريرٍ ضريبةً من الدماء والدموع

كُلنا ضدّ إسرائيل
ليس هناك عربي أو مسلم أو إنسان رشيد إلّا وهو ضدّ ما يفعله الإسرائيليون. وقد تعلّل كثيرون في الأيام الأولى أنّ الكرامة كانت تستحقّ، وأنّ لكلّ تحريرٍ ضريبةً من الدماء والدموع. ونحن الآن جميعاً مفجوعون، ولسنا مهمومين بالمحاسبة ولا تحميل المسؤولية لغير الإسرائيليين بالطبع. إنّما لو فرضنا جدلاً أنّه إذا دخلنا مثل الأميركيين وغيرهم في النقاش حول ماذا بعد الحرب يكون علينا لأنفسنا قبل الآخرين أن نفكّر في “المكاسب” التي حقّقتها لنا الحرب ونستطيع استغلالها(!)، ولا أعرف إذا كان هناك ما يمكن الإفادة منه بالنظر لهول الخسائر، وبالنظر للوحشية المتزايدة لدى العدوّ.
هكذا ولهذه الاعتبارات جميعاً وأهمّها التجارب السابقة في الحروب مع العدوّ، رأيت في عدّة مقالات أنّ الهجوم ما كان حكيماً، دون أن ينتقص ذلك من شجاعة الحماسيّين ولا إرادتهم في التحرير. وكنتُ قد ملتُ إلى تحميل إيران وتنظيماتها المسؤولية باعتبارهم هم مَنْ “دفش” التنظيمات باتجاه المواجهة لمصالح استراتيجية إيرانية. لكنّني انصرفت عن ذلك. فالتنظيم حاكمٌ لمليونين ونصف من البشر في القطاع، وهو مسؤول عنهم وليس إيران. ولذلك فلا معذرة لهذه الناحية. وبخاصةٍ أنّني لا أعتبر التنظيمات الفلسطينية مثل الحزب والتنظيمات المتأيرنة الأخرى. فالفلسطينيون لا يعملون إلّا في فلسطين، وهذا حقّهم وواجبهم، بينما يعمل الحزب ونظراؤه في عدّة دول عربية، وما عملوا في أرضٍ أو دولةٍ إلاّ وشاع في جنباتها الاضطراب والخراب على الإنسان والعمران. الحماسيون سلطة مسؤولة ليس عن أعضاء التنظيم فقط، بل وعن كلّ سكّان القطاع المنكوب.

ضرر الظاهرة “الجهادية”
ما خطر ببالي على الرغم من الحروب المتوالية بين حماس وإسرائيل، أن أعتبر حماساً وزملاءها “جهاديين” بالمعنى القاعدي أو الداعشي. فأولئك يفتكون بالناس باسم الجهاد وليس لهم أيّة مشروعية غير الجنون بالسلطة. وعندما بدأوا بالعراق ظننّا أنّهم جاؤوا لمقاتلة الغزاة، فانصرفوا لتسعير حرب طائفية قتلت نصف مليون وهجّرت خمسة ملايين معظمهم من السنّة. لقد خفت كثيراً لأنّ “الإرهاب” في نظر العالم، لا الأميركيين فقط، بل والروس والصينيين والهنود أيضاً، مرضٌ في الإسلام السنّي. ولا ينبغي أن تُلحق حماس بهم لهذه الجهة، لكنّ هذا هو الذي حصل، وجهاديّات الإسلام (السنّي) الداعشيّ مرض لا شفاء منه إلّا بشقّ الأنفس والأجساد والعقول!

لا أُريد إرهاق القرّاء بكثرة المخاوف كأنّما أريد الاعتذار مع أنّه لا عيب في الاعتذار من الخطأ إن كان. فأنا مصرٌّ على أنّ الظاهرة الجهادية شديدة الإضرار بالإسلام وليس أمام العالم فقط، بل وضمن ديارنا. لننظر اليوم إلى هياج شبّان السنّة بلبنان وإرادتهم الالتحاق بحماس. قبلها التحق المئات في أحداث عام 2011 بالمعارضة السورية، وسقط منهم خلال أربع سنوات ألفان، وبقي ألفان في السجون حتى اليوم. وما يزال الباسيليّون والصعبيّون يعيّروننا بأنّ طرابلس قندهار الشرق الأوسط. لقد تبيّن لنا أنّه صارت لحماس قواعد في لبنان. وصارت لدى الجماعة الإسلامية قوات تقاتل معها. ويذكّر ذلك كلّه بانخراط الشيعة والسنّة مع المقاومة أواخر الستّينيات. ونحن نعلم أنّ هؤلاء جميعاً لا يستطيعون شيئاً دون موافقة الحزب، لكنّه يستطيع الاعتذار بهم عند الضرورة. وقبل أيام كان السيد نصر الله يمنُّ على اللبنانيين (المسيحيين) أنّه قاتل الإرهاب حمايةً لهم، ومن هم الإرهابيون آنذاك واليوم؟
حضرت في عام 1967 أو 68 تأبيناً كبيراً ببلدة رأس المتن لشابٍّ من آل مكارم استُشهد مع فتح أو الجبهة الشعبية بفلسطين وتكلّم في الاحتفال الشهيد كمال جنبلاط فقال إنّ التحرير قريب وسيكون الشابّ الشهيد طليعة ذاك التحرير. بعد الاحتفال زرت صديقاً بالبلدة من آل نويهض وفي الحديث قال إنّ المقصود من الاحتفال حثّ شبّان الدروز على المشاركة كما يفعل الشيعة والسنّة وبعض المسيحيين، فالجميع ينبغي أن يشارك في تحرير فلسطين!

إقرأ أيضاً: الإسلام الجهادي ينقضي ويتجدّد كالسرطان

بين المشاركة بالقول أو بالفعل في الحروب الانتحارية التي تقوم بها التنظيمات المسلّحة، أو عدم فعل شيء، كان فقهاؤنا الأوائل، ما دمتم تعتبرونني فقيهاً، يرون الاعتزال في الفتنة، أي في النزاعات الداخلية. ولست مشاركاً في الهجمات، لكنّني صاحب موقف، مثلما يُفترض بالمثقّف أن يفعل. وليس معنى ذلك أنّني أعتبر الاعتزال جبناً، فهو موقف أيضاً، لكنّني أتهيّب مثل كثيرين مسؤوليّات الدم من قريبٍ أو بعيد. فإذا كان الصمت بدون موقف يساعد في وقف الفتنة الهوجاء فأنا مستعدٌّ لذلك، لكنْ أين الإحساس بالمسؤولية الدينية والأخلاقية والإنسانية؟!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…