لا فائدة من إصرار اللبنانيين على الضحك على أنفسهم. لا ينقذ لبنان غير الخروج في أسرع ما يمكن من حرب غزّة التي لا ناقة له فيها ولا جمل على الرغم من كلّ التفسيرات التي قدّمها الأمين العام للحزب حسن نصرالله في خطابَيْه الأخيرين. لم يكن الخطابان، اللذان لم يرد فيهما أيّ ذكر للقرار 1701، سوى تعبير عن وجود أجندة إيرانيّة تعتبر لبنان ورقة من الأوراق التي تمتلكها “الجمهوريّة الإسلاميّة”. تحرِّك إيران الورقة حين تشاء وفي الحدود التي تشاء في محاولة لبلوغ ما تشاء.
لا وجود لأيّ مصلحة لبنانيّة في أن يكون البلد مجرّد ورقة إيرانية أو “ساحة” من الساحات التي تستخدمها طهران لإثبات أنّها القوّة المهيمنة في المنطقة. أكثر من ذلك، يبدو أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة”، كما ظهر من كلمة الرئيس إبراهيم رئيسي في قمّة الرياض، وهي كلمة استغرق إلقاؤها 27 دقيقة، تريد توجيه رسالة لكلّ من يعنيه الأمر. فحوى الرسالة أنّ من حقّ إيران التعاطي مع المشاركين في القمّة العربيّة – الإسلاميّة بصفة كونها محور القمّة والطرف الوحيد فيها الذي يحقّ له التوصّل إلى صفقة شاملة ذات طابع إقليمي مع الإدارة الأميركية.
تكريس الفراغ السياسي
يبدو مطلوباً، أكثر من أيّ وقت، تكريس الفراغ السياسي وتجاهل القرار 1701 في لبنان كي يكون حسن نصرالله الصوت الوحيد في البلد، صوت الحرب والسلم فيه. لم يربح لبنان أو يستفد، ولو في الحدّ الأدنى، من أيّ حرب إقليميّة، بما في ذلك حرب تشرين من عام 1973. خسر ما جناه من عدم مشاركته في حرب 1967 بمجرّد توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم مع منظمة التحرير الفلسطينيّة في الثالث من تشرين الثاني من عام 1969.
وفّرت حرب تشرين شرعية كان النظام السوري في أمسّ الحاجة إليها لتأكيد أنّه حكم وطني وليس غطاء لحكم الأقليّة العلويّة لسوريا. في الواقع، كان النظام في حاجة إلى مثل هذا الغطاء الوطني الذي وفّرته له إسرائيل، خصوصاً بعد توصّلها إلى اتفاق فكّ الاشتباك مع دمشق في عام 1974 برعاية هنري كيسينجر وزير الخارجيّة الأميركي وقتذاك.
تمتلك إيران قرار الحرب والسلم في لبنان الذي يواجه الوضع الأكثر تعقيداً في المنطقة منذ عشرينيات القرن الماضي حين أُعيد تشكيل الشرق الأوسط إثر انهيار الدولة العثمانيّة
منذ حصوله على شرعيّة وطنيّة، بفضل حرب تشرين، ارتدّ النظام السوري على لبنان وعلى الورقة الفلسطينية التي عمل كلّ ما يستطيع من أجل أن تكون في جيبه بعدما اعتبر حافظ الأسد القرار الفلسطيني المستقلّ مجرّد “بدعة”. دفع لبنان ثمن حرب تشرين 1973، ويُخشى حالياً أن يدفع ثمن حرب غزّة في ضوء الإصرار الإيراني على توريطه فيها بطريقة أو بأخرى عبر “الحزب” مباشرة وفصائل فلسطينية ظهرت فجأة في جنوب لبنان في منطقة عمليات القوّة الدولية. بلغت الوقاحة بأن راح أحد ممثّلي حركة “حماس” في لبنان يتبجّح في لقاء مع إحدى الفضائيات المحلّية بإطلاق صواريخ في اتجاه الجليل انطلاقاً من الجنوب اللبناني. لم يأبه بأيّ كلمة صدرت عن مقدّم البرنامج الذي ذكّره، بكلّ تعقّل، بوجود مؤسّسات للدولة اللبنانية وسيادة للبنان على أراضيه، ولو صوريّاً. بدا المسؤول الحمساوي مهتمّاً بكلّ شيء باستثناء مصلحة لبنان واللبنانيين. تجاهل كلّياً الضرر الذي يمكن أن يلحق به وبأهله جرّاء إطلاق صواريخ من أراضيه. اكتفى بالقول إنّ “حماس” موجودة في لبنان “منذ سنوات طويلة” وكأنّ ذلك يبرّر حقّها بإطلاق صواريخ من أراضيه في اتجاه الجليل من دون حسيب أو رقيب. ما لم يقُله أنّ استباحة “حماس” للأراضي اللبنانيّة ما كانت ممكنة لولا غطاء “الحزب” الذي لا يأبه بما يمكن أن يحلّ بلبنان على العكس من الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ذهب غوتيريش في حديث إلى “سي. إن. إن” إلى التحذير من “تدمير كامل” للبنان في حال دخوله حرب غزّة.
الخوف من توسيع الحرب
ليس هذا رأي الأمين العام للأمم المتحدة فحسب، بل هو رأي كبار المسؤولين في الإدارة الأميركيّة أيضاً. هؤلاء يخشون من رغبة بنيامين نتانياهو في توسيع حرب غزّة عن طريق فتح جبهات أخرى من أجل جرّ أميركا إلى الحرب التي تخوضها إسرائيل. هناك، استناداً إلى زوّار لواشنطن، تضايق أميركي شديد من نتانياهو وتصرّفاته. يرى غير مسؤول أميركي أنّ “بيبي” انتهى سياسياً، ولذلك يعتبرونه في العاصمة الأميركية رجلاً خطيراً إلى أبعد حدود، بل على استعداد للذهاب بعيداً في جرائمه في غزّة من أجل تفادي المحاكمة والمحاسبة والسجن في المستقبل.
لم ترسل واشنطن كلّ هذه القوات إلى البحر المتوسط ومناطق شرق أوسطية أخرى لمشاركة إسرائيل في حرب غزّة أو في حروب أخرى تسعى إليها، بما في ذلك حرب في لبنان. أرسلت كلّ هذه القوات والقطع البحرية وحاملتَي طائرات من أجل احتواء حرب غزّة المرشّحة لأن تطول. هل يدفع لبنان ثمن احتواء حرب غزّة إيرانياً، كما دفع سوريّاً في خريف عام 1990 ثمن مشاركة نظام حافظ الأسد عسكرياً في حرب تحرير الكويت من العراق؟
تعرف إيران أنّ توسيع إسرائيل لحرب غزّة همّ أميركي. تعرف أيضاً أنّ مفتاح توسيع هذه الحرب، بما يستجيب لرغبة نتانياهو، في يدها. في النهاية، تمتلك إيران قرار الحرب والسلم في لبنان الذي يواجه الوضع الأكثر تعقيداً في المنطقة منذ عشرينيات القرن الماضي حين أُعيد تشكيل الشرق الأوسط إثر انهيار الدولة العثمانيّة.
إقرأ أيضاً: إيران تقبض من أميركا… ثمن ضبطها الجنوب؟
من الواضح أنّ إيران تريد في لبنان ثمناً من أميركا لقاء عدم توسيع الحزب للحرب وإبقاء وتيرة الحرب الدائرة حالياً ضمن حدود معيّنة. هل يكون الثمن الذي تريده “الجمهوريّة الإسلاميّة” عملية تبييض ذات طابع سياسي، عبر تعديل دستور الطائف، لنفوذ الحزب… وهو نفوذ يمارسه حالياً عن طريق سلاحه؟