لبنان مزدحماً بالزوّار: التاريخ ساعة رملية!

مدة القراءة 5 د


في كتابه “خطّ في الرمال” يروي جايمس بار قصة فقدان المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو لذراعه. يصفها بـ”الأسطورية”. ويتابع: “في حين كان يقود الجيوش الفرنسية إلى جاليوبولي قبل أربعة أعوام (من مجيئه إلى بيروت)، أصيب بجروح بالغة جراء انفجار قذيفة تركية، والتهب أحد جروحه. قيل له في المستشفى الميداني: “إنّها علامة مؤكدة للغرغرينا يا جنرال. عليك أن تمنحنا موافقتك على بترها، وإلا قد تموت الليلة”. أجاب غورو مبتسماً: “يا له من طلب غريب! أنا متأكد من أن لا أحد يرغب في الموت الليلة. وأنت كذلك، من دون شكّ”. يروي بار هذه الحكاية، ليؤكد على صلابة شخصية الرجل الذي وصل إلى بيروت في 21 تشرين الثاني 1919، و”استقبلته الحشود المهلّلة، لكن هذا التعبير العفوي الظاهري لولائهم عائد في الحقيقة إلى تحضير مسبق في الكواليس من المسؤولين السياسيين الفرنسيين”. وإلى الدور السياسي الفرنسي المرسوم له، كان غورو “يرى نفسه محارباً صليبياً” بحسب بار. وعندما دخلت الجيوش الفرنسية العاصمة السورية دمشق، توجّه غورو مباشرة إلى وسط المدينة القديمة، “حيث المدفن المتواضع لأشهر محارب عرفه العالم المسلم، وقد دُفن فيه قبل سبعمئة سنة. هتف لدى وصوله: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.

إقرأ أيضاً: لماذا أُعجب عمر بن الخطاب بزهير ابن أبي سلمى؟

هذه الرواية هي للقول بتداخل مصالح الدول مع مصالح الأفراد في صناعة السياسات العامة للدول العظمى. لا يمكن فصل التاريخ الذي صنعته فرنسا عن تفاصيل نفسية وشخصية كهذه تتحكّم بالشخصية المبعوثة إلى المنطقة لترتيب أمورها، وصناعة مستقبلها كما خطّطت له الدولتان اللتان تصارعتا في حرب سرية، حيكت بالدسائس وعمليات التجسس بين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على الشرق الأوسط، انتهت إلى إقرار انتداب بريطاني على فلسطين وشرق الأردن والعراق، وفرنسي على لبنان وسوريا. ولا تحيد جميع الأحداث التاريخية التي عادت ورسمت مسار الأمور في لبنان منذ وصول غورو إلى بيروت، وحتى وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن هذا الصراع الخفي بين الدول العظمى للسيطرة وفرض النفوذ في المنطقة. وفي كلّ مرحلة تاريخية كان يشهد لبنان زحمة مبعوثين وزخماً من الزيارات لمسؤولين كبار، كانت الأمور تخرج غالباً عن السيطرة، ولا تنبئ إلا باضطرابات مديدة، أو قصيرة، بحسب الظروف الإقليمية والدولية، وغالباً ما كانت تمهّد لحضور عسكري يليها. 

هل لا يزال لبنان بهذه الأهمية بالنسبة إلى الأميركيين؟ بالتأكيد ليس بالقدر نفسه، لكنه لا يزال يشكل مادة صراع بين المحاور الإقليمية والدولية الكبيرة كما حدث في العام 1958، وكما عاد وحدث في العام 1975

قبل عام تقريباً من اندلاع أحداث العام 1958 الطائفية (على خلفية صراع محاور إقليمي – دولي) صدر تقرير عن اللجنة المشتركة لرؤساء أركان الجيش الأميركي عن برنامج المساعدات العسكرية للشرق الأوسط. وقد شرح بوضوح وتفصيل أهمية لبنان بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولخّصها في “خطوط ومراكز الاتصال التي يستطيع تأمينها من أجل تنمية دفاعات متقدّمة في منطقة الشرق الأوسط”. ولبنان، بحسب التقرير، “يمتلك واحداً من أفضل المرافئ وشبكات الطرقات على الساحل الشرقي للمتوسط، إضافة إلى قواعد جوية ذات إمكانات واعدة. فضلاً عن أنّ معظم الأنابيب التي تنقل النفط من الخليج الفارسي والعراق تنتهي في مرافئ لبنان على المتوسط”. هذا التقرير صدر في شباط من العام 1957. في تموز من العام 1958، كان جنود “المارينز” ينزلون على شاطئ خلدة. لحق بهم في غضون أيام خمسة عشر ألف جندي أميركي آخر، يدعمهم أربعون ألف جندي أميركي محمولون على بوارج حربية رابضة في المتوسط، وكانت أوّل عملية إنزال من نوعها تقوم بها القوات الأميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

هل لا يزال لبنان بهذه الأهمية بالنسبة إلى الأميركيين؟ بالتأكيد ليس بالقدر نفسه، لكنه لا يزال يشكل مادة صراع بين المحاور الإقليمية والدولية الكبيرة كما حدث في العام 1958، وكما عاد وحدث في العام 1975. وليست الزيارات الكثيرة للمسؤولين الإقليميين والدوليين من رؤساء دول وميليشيات ومبعوثين ووزراء خارجية إلا ترجمة لشدّ الحبال الإقليمي والدولي للسيطرة على لبنان. بهذا المعنى، قد تختلف الانطباعات اللبنانية تجاه الزيارات الإقليمية والدولية. فينزعج فريق من ماكرون، فيما ينزعج آخر من شينكر، ويعترض ثالث على زيارة إسماعيل هنية أو محمد جواد ظريف، لكنها كلها زيارات تحمل مصالح الزوّار أولاً على حساب مصالح لبنان، طبعاً.

في كلّ الأحوال، وبالعودة إلى كتاب جايمس بار، الذي أهداه وليد جنبلاط إلى أكثر من شخصية، بينها وزير خارجية أميركا مارك بومبيو، مع إهداء كتب فيه جنبلاط: “حضرة وزير الخارجية المحترم، رُسِمَت خطوط كثيرة في المئة سنة الأخيرة، تخلّلها سفك مهول للدماء. وسياسة أميركا المتحيّزة لاسرائيل، ووقوفها إلى جانب إسرائيل، ستسبّب اضطرابات لا تنتهي”. إهداء يُستعاد به التاريخ المتكرّر، كساعة رملية تُقلب كلما تسرّبت جميع رمالها، على نحوٍ مثير للدهشة في هذه البقعة من العالم التي تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى بقعة دم كبيرة تجفّ ببطء تحت شمس قاتمة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…