لبنان في ظلّ قيصر: كاراكاس أو هونغ كونغ

مدة القراءة 5 د


في مطلع آب 2019، حدث شيء في دمشق لم يخطر لأحد أنّه قد يسهم في تغيير وجه الحياة في لبنان. داهم الأمن السوري جمعية “البستان”، إمبراطورية رامي مخلوف، لتشتعل شرارة الحرب بين النظام وعقله المالي.

خضعت الجمعية لسلطان سيّدة القصر أسماء الأسد، لكنّ الصراع على الأموال المخبأة في الحسابات الخفية أكبر من أن تحسمه غارة أمنية. قيل الكثير بعد ذلك عن ضغوط مورست على مخلوف وسواه لإعادة أموال مهرّبة إلى الخارج. لا يُعرف كم كان في البنوك اللبنانية من تلك الأموال، سواء منها ما سيطرت عليه أسماء الأسد أو ما ظلّ تحت سيطرة مخلوف، وليس معروفاً ما إذا كانت قد جرت محاولات لاستعادتها. لكن معروف بالوقائع أن انهياراً كبيراً لليرة السورية بدأ في آب 2019، الشهر الذي أعلنت خلاله الحرب المالية بين أركان النظام. ومعروفٌ أنّ أوّل ارتفاع للدولار في لبنان إلى مستوى 1530 – 1540 ليرة حدث في أواخر ذلك الشهر، حين كانت الدولارات تُسحب من الحسابات السورية في فروع البنوك في شتورا بكثافة غير مسبوقة.

إقرأ أيضاً: “صندوق عون”: خطة القبض على أصول الدولة ومليارات المودعين

بقية القصة معروفة. صعد الدولار في بيروت، فاندلعت ثورة 17 تشرين، لتغلق البنوك أبوابها أسبوعين، وتفرض بعد ذلك “كابيتال كونترل” مشدّداً، علق فيه المودعون السوريون، فصار الدولار أكثر شحّاً في سوريا، وصار الانهيار سِباقاً بين الليرتين.

في الذاكرة اللبنانية ندبة مشابهة: حين انسحبت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عقب الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وسحبت معها أموالها من البنوك اللبنانية، دخلت الليرة في دورة طويلة من التراجع. وفي الحكمة المشهورة أن من لا يتعلّم من التاريخ محكوم بإعادته.

ليس ثمّة أرقام يمكن الركون إليها حول حجم الودائع السورية في لبنان. لكن التقديرات التي ترد في الصحافة تتراوح في مجملها بين 28 و45 مليار دولار. والرقم الدقيق يصعب تحديده، أقلّه لأنّ كثيرين من أصحاب الودائع السوريين يحملون الجنسية اللبنانية، أو هم متزوجون من لبنانيات، أو يودعون أموالهم تحت أسماء كيانات لبنانية. ولذا، فإنها لا تُصنّف في بند “ودائع غير المقيمين”. لكن مهما يكن الرقم، فإنّه ضخم إلى الحدّ الذي يفسّر حجم التداخل والتلازم بين مساري الأزمتين اللبنانية والسورية.

على خلفية هذا التلازم، يأتي قانون “قيصر” الأميركي، ليفرض عقوبات على كلّ من يُجري تعاملات مع الحكومة السورية وكياناتها ورجالاتها، لا سيما في قطاعات الإنشاءات والبنية التحتية والطيران والنفط والغاز. هذا يعني حظراً ضمنياً لأية مشاركة في نشاط إعادة الإعمار الذي بدأه بالفعل بعض من أثرياء الحرب في ضواحي دمشق.

المختلف في قانون “قيصر” أنّه يستهدف من يُجري التعاملات مع النظام السوري أكثر مما يستهدف النظام نفسه، ولذلك هو ليس موضوعاً لبنانياً أقلّ مما هو موضوع سوري. خصوصاً أنّ اعتماد سوريا على لبنان في فتح اعتمادات الاستيراد زاد كثيراً من العام 2012 مع توالي العقوبات الأميركية والأوروبية.

لبنان هو لبنان بالنسبة إلى سوريا: هو البوابة، والخاصرة الرخوة. هو شيء من هونغ كونغ بالنسبة للصين وأكثر. هو السوق الحرة. هو متجر الأثرياء. هو السوق الخلفية للقطع الأجنبي. هو موطن ودائع التجار الهاربين بعملاتهم الصعبة. هو معبر الاستيراد والتصدير. هو الحديقة الخلفية لتأسيس الكيانات الهاربة من العقوبات. هو موطن تنظيف أموال الفساد. وهو موطن الشراكات في المنطقة الرمادية بين السياسة والبزنس.

قبل سنة من الآن، لم يكن للسياسيين في بيروت حديث سوى الاستفادة من إعادة إعمار سوريا. قيل الكثير عن تأهيل مرفأ بيروت، وشقّ نفق يختصر المسافة والوقت إلى البقاع، وعن شراء الصينيين أراضي ومجمّعات في تعنايل على مقربة من الحدود السورية. وقيل أكثر عن دخول الروس والصينيين إلى طرابلس، الموعودة بالتحوّل إلى بوابة التجارة والإعمار في شمال “سوريا المفيدة”.

الفئة الحاكمة في لبنان تريد انخراطاً كاملاً مع سوريا في مواجهة العقوبات الأميركية مهما كانت الأثمان

تدور العجلة سريعاً، ولا يحضر إلا مشهد مطاردة الشاحنات السورية في شمال لبنان برموزه المكثّفة. كيف تصل طرابلس إلى حدّ النقمة على نقل الطحين والسكر من مرفئها إلى الشمال السوري، وهي التي كانت مركز ثقله الاقتصادي لعقود خلت قبل إعلان لبنان الكبير؟

لا يتعلّق الأمر فقط بالنقمة على المعابر غير الشرعية، وما تستنزفه من الاحتياطيات الدولارية اللبنانية، بل بشعور لدى فئة من اللبنانيين بأنّ الارتباط بسوريا سيُغرِق لبنان أكثر في أزمتها وعقوباتها ومحورها.

لكنّ الفئة الحاكمة في لبنان تطرح على اللبنانيين خياراً آخر. تقول إنّ المصلحة اللبنانية هي في ما تسمّيه “السوق المشرقية”، وهي تعني تحمّل أثمان الانخراط الكامل في محور يمتدّ من سوريا إلى إيران وروسيا والصين، مهما كانت آثار ذلك على هويته الاقتصادية وقطاعه المالي ومفاوضاته المتعثّرة مع صندوق النقد الدولي.

أزمة لبنان أنّ الخيارات الرمادية غير متاحة هذه المرة. إما أن تبقى المعابر غير الشرعية والتعاملات الرسمية وغير الرسمية مع النظام فتكون أزمةً واحدةً في بلدين، وإما أن يقطع لبنان الحبال السريّة الكثيرة، وفي ذلك ألم اقتصادي كبير، واجتياز لخطوط “حزب الله” الحمراء.

ما يفعله قانون “قيصر” أنّه يعيد صياغة الانقسام السياسي في لبنان على نحوٍ يحاكي سؤال وليد جنبلاط الشهير، لكنّه ليس خيارا بين هانوي وهونغ كونغ هذه المرّة، بل بين كاراكاس وهونغ كونغ.

 

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…