ماذا يناقش السياسيون اللبنانيون؟ وحول ماذا تدور السياسة في هذه القرية النائية التي اسمها لبنان؟
بيسر فظيع غيّرت الموضوع النخبة السياسية التي تشكل الدولة العميقة في لبنان بصرف النظر عن مدى علنية أو تمويه حضورها داخل الحكومة الحالية.
لم ينتبه أحد كيف انتقل أقانيم هذه النخبة من اولوية النقاش الاقتصادي ل آلخروج من حال الانهيار السابق على كورونا، إلى إشتباك عجيب حول التعيينات في حاكمية مصرف لبنان أو القضاء أو غيرها من مفاصل الدولة المهترئة.
تجرّؤ إستثنائي على الوقاحة، والاستهتار بمستقبل اللبنانيين. يشبه الأمر ترف الخلاف على وضعيات الجلوس في سيارة إسعاف تقلّ مريضاً على شفير الموت!
إقرأ أيضاً: هل ينهار لبنان قبل إيران؟
فجور استئثاري وشراهة لا حدود لها للسطو على مواقع القطاع العام والإدارة، في دولة من غير المؤكّد أنّها ستكون قادرة على دفع رواتب موظفيها، إذا ما استمرّ واقعها الاقتصادي على ما هو عليه.
وفي حين تجتهد الحكومات في العالم لضخّ كميات مهولة من الأموال لحماية الاستقرار الاقتصادي في أثناء وما بعد كورونا، يتصارع أركان تحالف السلطة والمصارف فيما بينهم للبحث في كيفية السطو على المزيد من أموال المودعين، المتوفرة فقط في العالم الدفتري للبنوك أو على شاشات الكمبيوتر والتلفون…
المسألة تتجاوز ذريعة فقر لبنان، لا سيما في بند السيولة، لتُثبت أنّ البلاد تُقاد بلا رؤية وبلا مشروع، حتّى للحصول على مساعدات من الجهات الدولية، كالبنك الدولي أو صندوق النقد. ليس أدلّ على هذا العجز، في ميزان القيادة الذي يعاني منه لبنان، من سعي الحكومة للحصول على قروض من البنك الدولي في يوم إعلان لبنان توقّفه عن سداد ديونه بالعملات الأجنبية، بعد أن كان أعلن “تعليق” سداد فوائد إصدار اليوروبوند التي استحقت في 9 آذار الفائت.
فمن الذي سيُقرض بلداً يعلن من الآن تخلّفه عن سداد ديون مستحقّة عام 2037؟
وفي مثال آخر ينقل لي مصدرٌ متابع لأداء الحكومة الاقتصادي أنّ مضمون محادثات إعادة هيكلة الدين قبل يومين، بين الحكومة ممثّلة بوزارة المال وحاملي سندات اليوروبوند، جاءت مخيبة للآمال. فهي لم تتجاوز التداول النظري ببعض الأرقام من دون عرض أيّ رؤية أو خطة عملية، تكون مقنعة ومطمئنة لحملة السندات، ومن دون أيّ فهم لقواعد “الاقتصاد التطبيقي” وضروراتها في الأزمة التي يمر بها لبنان.
أزمة لبنان ليست أرقاماً فقط، بل أزمة رؤية اقتصادية للحلّ وفهم لقواعده وشروطه القانونية والسياسية والعملانية، وهو ما يحتاج قيادة سياسية من نوع مختلف ومصارحة حول أسباب ما وصلنا اليه.
في المقابل يكاد يكون لبنان من أكثر الدول في العالم التزاماً بتجربة الحجر المنزلي في مواجهة كورونا. لم ينتظر اللبنانيون إعلان حال الطوارىء أو الدعوات الإلزامية إلى الحجر المنزلي. أخذ الناس المبادرة. وأخذوها أيضاً في تجربة التضامن والتكافل الاجتماعي بعيداً عن برامج التحفيز الاقتصادي الرسمية التي يعرفون أنّها لن تأتي من سلطة سياسية تفتقر إلى الحد الأدنى من مواصفات القيادة في أزمنة عادية.. دعك عن زمن كورونا!
عشرات المبادرات انطلقت حول فكر اقتصادي تشاركي بين المواطنين بحيث يكفل الميسورون منهم من هم أقل حظاً، لا سيما من المياومين الذين توقفت أعمالهم وتعطّلت بالتالي قدرتهم على تأمين المستويات الدنيا من متطلّبات الاستمرار.
الظاهرتان، الحجر المنزلي الاختياري ومبادرات المجتمع المدني لبناء اقتصاد تشاركي، تعبّران عن تزاوج اليأس والأمل. اليأس من قدرة السلطة السياسية على اتخاذ القرار المناسب في أي موضوع، والأمل بأنّ الناس قادرة على الإمساك بزمام مصيرها وأنّها قادرة علي الفعل والتغيير، لا سيما بعد نجاح الناس في تدمير سمعة وهيبة الطبقة السياسية التقليدية منذ ثورة 17 تشرين الأوّل 2019.
كأنّ الناس تعلن انفصالها عن الطبقة السياسية وتؤسس في داخل بيوتها وعبر ما يربطها ببعضها من شبكات واقعية وافتراضية، مقاطعات حكم ذاتي. نحن في الواقع بإزاء ولادة لبنان افتراضي يعلن انفصاله عن الجمهورية اللبنانية المتعارف عليها رسمياً ويجتهد لإيجاد سبل استمراره بلا منغّصات الدولة وتفاهة مؤسساتها وتخلّف نخبتها السياسية، إلا في ما ندر.
لكن إلى أين؟
تتكالب على اللبنانيين أزمات ثلاث:
1- أزمة سياسية عميقة منذ 17 تشرين وعنوانها التصادم الحادّ بين الشرعية الانتخابية المتأتية عن انتخابات العام 2018، والشرعية الشعبية التي شكّلت أعمق وأوسع إدانة للطبقة السياسية وأركانها بلا تمييز يذكر.
2- أزمة اقتصادية متعدّدة الأسباب وفي رأسها اصطدام لعبة إدارة الاقتصاد، عبر سياسات الاستدانة، بحائط الافلاس التام للدولة.
3- أزمة صحية لا تزال مضبوطة ضمن حدود معقولة نسبياً ولكن بكلفة اقتصادية إضافية ستؤدّي الى تدمير ما تبقى من مؤسسات صغيرة ومتوسطة والمزيد من إفقار المياومين وصغار الكسبة والشرائح الدنيا والوسطى من بقايا الطبقة المتوسطة.
ما أرجّحه أن يخسر لبنان المزيد من طبقته الوسطى المتعلّمة والمنتجة لصالح هجرات جديدة إما مؤقتة في الجوار العربي وإما هجرات أبعد وأطول لا سيما في الأوساط المسيحية
تكالب هذه الأزمات معاً يعني، في ما يعنيه أيضاً، استنزاف قدرة الطبقة السياسية التقليدية بكامل مكوّناتها على فرض سطوتها وهيمنتها على القرار الشعبي بسبب النزيف الحاصل فى سمعتها وفي قدرتها على إيجاد الحلول.
يمكن للعقل المتفائل أن يرى في هذا المعطى باباً عريضاً فُتِحَ أمام التغيير الاجتماعي والسياسي، وبالتالي الوصول بأهداف ثورة 17 تشرين إلى جزء معقول من أهدافها، وإنتاج نخبة سياسية جديدة أكثر كفاءة وحداثة.
دون هذه الأمنية الكثير من العقبات، يراها العقل المتشائم، أبرزها أنّ لبنان، ولأجل غير محسوم المدّة، سيظلّ منصّة تجاذب سياسي وأمني إقليمي ودولي، بصرف النظر عن أكلاف ذلك على الناس. ومؤدّى ذلك أنّ لبنان مقبل على موجة هجرة جديدة لنخبته الشابة مع انتهاء العام الدراسي الحالي، الذي انتهى في الواقع، ومع تباطؤ موجة الرعب من كورونا.
ما أرجّحه أن يخسر لبنان المزيد من طبقته الوسطى المتعلّمة والمنتجة في مقابل هجرات جديدة إما مؤقتة في الجوار العربي، ولو في ظلّ القدرات الاستيعابية المتناقصة لدول الخليج، وإما هجرات أبعد وأطول لا سيما في الأوساط المسيحية، مع ما سيتركه ذلك من اختلالات أعمق وأخطر على تركيبة لبنان.
غداً في أساس:
رضون السيّد يكتب: هكذا نعيد أهل السُنّة إلى المعادلة الوطنية