ساعات قليلة فَصلت بين خطاب الرئيس المكلّف سعد الحريري “المبشّر” بولادة حكومة قبل عيد الميلاد وبين “خطاب اليأس” الذي ألقاه بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون أمس، مُعلناً ترحيل “التشكيلة” إلى ما بعد رأس السنة، ومعترفاً، بعد شهرين من تكليفه، بوجود “عراقيل واضحة” تمنع صدور مراسيم الحكومة.
هكذا ورّط الحريري نفسه بمهلة 48 ساعة لولادة محتملة للحكومة لم تترافق مع أيّ مؤشّر لحلحلة خارجية باستثناء دخول ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب أسابيعها الأخيرة وأحاديث لا تتوقّف عن عقوبات أميركية قد تعيد مُجدّداً خلط الأوراق وربما إرجاع المسار الحكومي إلى نقطة الصفر.
لكن بعد وقت قصير من مغادرة الحريري بعبدا خالي الوفاض سرّبت مصادره تبريراً لـ”تسويقه” الأجواء الايجابية بالتأكيد “أنّها كانت بطلب مباشر من عون الذي تمنّى عليه التصريح بوجود ايجابيات يتمّ العمل على استكمالها”. وأشارت إلى “وطاويط القصر التي تحرّكت ليلاً لتعكير الجو والإعداد لجولة جديدة من التعقيدات”، مؤكدة أنّ “المعلومات التي سرّبت من قصر بعبدا قبل زيارة الحريري أشاعت مناخاً سلبياً عن نتائج الاجتماع قبل حصوله”.
وفعلياً، كلام الغرف الضيّقة كان يعاكس تماماً الأجواء الإيجابية التي تقصّد الرئيس المكلّف ومحيط بيت الوسط تعميمها عقب لقاء الـ90 دقيقة يوم الثلاثاء بين رئيس الجمهورية والحريري. فحَضَر التشكيك المتبادل بالنوايا، ما عزّز فقدان الثقة بين الطرفين، وطرح تساؤلات جدّية حول التعايش “المُنتج” داخل حكومة. حكومة بالاسم تضمّ اختصاصيين، وبالفعل ستتوزّع “ولاءاتها” على ثلاث جبهات سياسية بفعل تقسيم “الثلاث ستّات” الذي لا يزال قيد الدرس!
أكثر من ذلك، وحتّى لحظة أعلن الحريري استسلامه أمام إمكانية ولادة الحكومة خلال ساعات، مع تحييده عون من الاستهداف وإلقائه المسؤولية على “السياسيين”، كانت الفيتوات تتطاير بين المقرّات: ميشال عون لن يوقّع إلا تشكيلة تضمن الثلث الضامن و”الحقائب الوازنة”. جبران باسيل يُشهر سلاح “المعايير الموحّدة” وإلا فلا حكومة. وليد جنبلاط غير راضٍ عن حقيبة الخارجية. طلال إرسلان يرفع سقف المواجهة. تيار المردة لم يُسأل عن رأيه بالتشكيلة… وحزب الله “يمشي حين يمشي عون بالحكومة”!
وطاويط القصر التي تحرّكت ليلاً لتعكير الجو والإعداد لجولة جديدة من التعقيدات، المعلومات التي سرّبت من قصر بعبدا قبل زيارة الحريري أشاعت مناخاً سلبياً عن نتائج الاجتماع قبل حصوله
“عُصارة” الساعات الماضية قدّمت على الورقة والقلم دليلاً على اعتماد المقاربة “المُحاصصاتية” إيّاها في تشكيل الحكومات رغم تركيز الحريري على أهمية الإتيان بوزراء اختصاصيين “لا يردّون عليّ”. وزاد في الطين بلّة دخول التفاوض في نفق الجَمع بين التشكيلة التي قدّمها الحريري لعون خلال لقائهما في التاسع من الجاري و”توزيعة الحقائب على الطوائف” التي سلّمها رئيس الجمهورية للرئيس المكلّف خلال اللقاء نفسه. وهو واقع ينفيه القريبون من الحريري خشية تكريس عرفٍ يفتي بـ”تبادل التشكيلات” خلافاً للدستور.
ولعل المفارقة التي رافقت المشهد الحكومي أنّه حين كان الحريري يروّج لأجواء إيجابية، شغلت قيادات عونية هواء بعض المحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي لتؤكّد أنّ “الحريري صاحب مصلحة في عدم التشكيل الآن بعكس مصلحة رئيس الجمهورية كون عهده بالدقّ”ّ!
عملياً فإنّ الجَمع بين “التشكيلتين”، وهو واقع يحاول رئيس الجمهورية فرضه، ساهم في التأزيم وليس الحلحلة، كون المسودّة الحريرية تتعارض مع “توزيعة” عون للحقائب.
وتفيد المعطيات في هذا السياق بأنّ حقيبة العدل التي كان رئيس الجمهورية قد أبقاها ضمن حصته في تشكيلة الحقائب التي سلّمها للحريري يوم الثلاثاء، خضعت في تلك الجلسة، إضافة إلى حقيبة الداخلية، لنقاش مستفيض، وحصل توافق مبدئي قام على أساس اقتراح عون بمنح الحريري حقيبة العدل (تؤول الى سنّي) على أن تصبح الداخلية من حصّة عون ويسمّي لها شخصية أرثوذكسية. بداية رفض الحريري العرض ثم طلب وقتاً ليردّ الجواب في اليوم التالي.
لكنّ الحريري الذي تردّد في الساعات الماضية أنّه طلب رأي مرجعية سعودية بموضوع الحكومة، أعلن رفضه أمس الحصول على العدل مقابل التخلّي عن الداخلية، وعلى التوافق حتّى مع عون على اسم مشترك للداخلية، وتمسّكه بإبقاء هاتين الحقيبتيّن ضمن حصته. فيما تقول مصادر رئيس الجمهورية إنّ الأخير “قدّم تنازلاً حين ارتضى إعطاء العدل للحريري وتسمية شخصية أرثوذكسية لوزارة الداخلية من حصّته وتنال موافقة الحريري. وهو تطوّر نوعي في التفاوض لم يبادله الحريري بالمثل”. ووفق هذا التوزيع الذي لم “يقطع” تصبح حقائب الدفاع والداخلية والطاقة من حصة فريق عون لتنتقل العدل إلى الحريري.
وكشفت مصادر بيت الوسط الوجه الآخر من الرواية حيث أكّدت على تمسّك عون وباسيل بالثلث المعطّل وإصرارهما على الإمساك بحقيبتيّ العدل والداخلية (إضافة الى الدفاع).
الحريري الذي تردّد في الساعات الماضية أنّه طلب رأي مرجعية سعودية بموضوع الحكومة، أعلن رفضه أمس الحصول على العدل مقابل التخلّي عن الداخلية، وعلى التوافق حتّى مع عون على اسم مشترك للداخلية، وتمسّكه بإبقاء هاتين الحقيبتيّن ضمن حصته
القاضي زياد أبو حيدر، ابن طليا في البقاع، هو الاسم الذي اختاره الحريري لحقيبة الداخلية بعد استبعاد نقولا الهبر بفيتو من رئيس الجمهورية رافضاً بشكل قاطع تعيين ضابط سابق في هذا الموقع. عون في المقابل تمسّك باسم آخر كشفه أمام الرئيس المكلّف ولم يوافق الأخير عليه. أما العدل فاختار الحريري لها ابنة الوزير الأسبق عمر مسقاوي وهي لبنى مسقاوي محامية ودكتورة في القانون.
كما أن عقدة الحقائب السيادية لا تزال قائمة. إذ يخشى عون أن يؤدي منح الخارجية إلى شخصية درزية إلى “مشكل كاثوليكي” ضمن فريقه السياسي هو بغنىً عنه. لذلك وجهة نظر بعبدا في هذا السياق قامت على أساس أنّ “المداورة لا تلغي احتفاظ الطوائف الرئيسية بالحقائب السيادية. ومن هنا رفض منح الخارجية لوزير درزي”.
إقرأ أيضاً: زيارة الحريري الـ13 إلى بعبدا: هل تنضج “طبخة البحص”؟
وفي ظل تقاذف كرة المسؤولية عن تعطيل تأليف الحكومة رفضت أوساط باسيل الاتهامات الموجّهة لفريق رئيس الجمهورية بعرقلة صدور مراسيم الحكومة، مؤكّدة أنّ “إدارة الحريري فشلت حتّى الآن في تأمين الظروف “الصحيّة” لولادة الحكومة، وأنّ مقاربته الحالية في موضوع الحقائب والأسماء مرفوضة بالكامل ما يصعّب حصول لقاء قريباُ في قصر بعبدا إذا بقيت ذهنية التأليف هي نفسها”.
في المقابل، نبّهت مصادر بيت الوسط من “محاولات تزوير الحقائق التي يمارسها بعض المحيطين والمستشارين والمتخصّصين بفتاوى التعطيل السياسي والدستوري“، معتبرة أنّ “أيّ محاولة لفرض حكومة تتسلّل اليها التوجّهات الحزبية لن يكتب لها النجاح”، فيما كان ينقص فقط أن تُرفق المصادر التسريبات بذكر اسم جبران باسيل بوصفه المسؤول الأول عن العرقلة.