لاعب البلياردو نبيه برّي: نبوءة شمعون.. وعقدة العهد

مدة القراءة 5 د


في مؤتمري جنيف ولوزان، إكتشف الرئيس كميل شمعون “الشاب” نبيه بري. كان برّي يافعاً حينها، نظراته، حركته، طريقة كلامه، لفتت أحد أدهى السياسيين في لبنان والذي كان يلقّب بـ”فتى العروبة الأغرّ”، وهو كميل شمعون.

بعد مناقشات المؤتمرين، قال شمعون الكثير عن برّي، متنبّئاً له بمستقبل واعد، واصفاً إيّاه بـ”الرجل الذكي الذي يحمل نظرات ثعلب”. وقال إنّه سيكون “صاحب دور بارز ومؤثّر جداً في المجريات اللبنانية”. ولم يخيب برّي نظرة شمعون. أثبتها بحرفة وإتقان. وكلّ من يعرفه يصفه بأنّه الحذق، اللمّاح، الخطيب المفوّه، صاحب سرعة البديهة، والمحامي بعقل مهندس، والسياسي المحنّك بشخصية ثائر.

إقرأ أيضاً: برّي و”التشاوري” يحميان مواقع السنّة في الإدارة

يعرف برّي كيف يقدّم نفسه وموقفه. يتقن الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الناس والمحرومين، ولو كان على مغالياً في اندفاعه. في السياسة، لاعب ماهر في البيلياردو، يصوّب على هدف ليصيب آخر. كمن يضرب طابة بأخرى لتدخل ثالثة في الحفرة المقصودة.

لا تخرج تسوية إلاّ من بين يديه. وإذا ما كادت واحدة تتفلت من فخاخه، يعرف كيف يعيدها ويستعيد المبادرة.هكذا كان في العام 2016 بعد التسوية الرئاسية التي لم يكن موافقاً عليها، فأعلن فيما بعد “جهاده الأكبر”.

لم ينجح عهد ميشال عون في تجاوز نبيه برّي. إحتاجه العهد في الكثير من المحطات، وعاد إليه طلباً للعون. هو يعلم أنه هدفهم الدائم، لكنّه يجيد اللعب على حبال كثيرة، وتناقضات تغدو طيّعة بين يديه. هو الحرفي في السياسة، بدونه لا يمكن لحكومة حسّان دياب أن تستمر، وفي داخلها، يقدّم نفسه نصير المستبعدين عنها، هو ملاذ وليد جنبلاط ومأمنه، نصير الحريري ظالماً أم مظلوماً، فاتح الخطوط الدائمة مع سمير جعجع، كي لا يظنّ التيار الوطني الحرّ أنّه صاحب السيادة الأوحد على الساحة المسيحية.

هو نقطة التقاطع والتواصل بين الجميع. كُثر أرادوا إغراقه في رمال ثورة 17 تشرين المتحرّكة. إستعجلوا استهدافه لعلّهم ينجحون بالاقتصاص منه: طامحون من داخل الطائفة، وحاقدون من خارجها، يعتبرونه العقبة أمام سيطرتهم على الحكم والمقدّرات. لا يتركون مناسبة إلا يعلنون فيها سعيهم إلى تطويقه ومحاصرته، لكنّهم يفشلون دوماً، وهو القائل قبل أيام: لن أسمح لهم بتسلّم البلد، أو التحكّم به وبنا.

 بدأت محاولات تطويقه وحصاره، في ملفّ “الكابيتال كونترول”، ومن بوابة الصراع على الصلاحيات، التي يقاتل في سبيلها رئيس الجمهورية وفريقه منذ اليوم الأول لوصولهم إلى قصر بعبدا.

نجح برّي في الدفاع عن صلاحياته، وصلاحيات رئيس الحكومة كذلك. يعرف قيمة التوازنات وفداحة ثمن أيّ إخلال بها. هذا الأمر لا تهاون فيه لأنه يؤدّي إلى خراب ودمار. عندما تقدّم وزير المال غازي وزني بمشروعه المالي و”الكابيتال كونترول”، كان برّي موافقاً عليه، لأنّه يحمي المودعين، ولا يغلّب مصلحة المصارف على عموم اللبنانيين.

 أُخذ اقتراح وزني المدعوم من برّي، إلى صراع الصلاحيات. لم تُدرج خطته على جدول أعمال جلسة الحكومة. أراد خصوم برّي أن ينسبوا الخطة لأنفسهم. فريق رئيس الحكومة، وفريق رئيس الجمهورية عكفوا على إدخال تعديلات على المشروع، حتّى أصبح مناقضاً لما تقدّم، ويحفظ مصالح المصارف على حساب المودعين.

أعلن برّي رفضه القانون برمّته، فتأجّل البحث به. لم يقف خصومه عند هذا الحدّ، مضوا في استهدافه، من بوابة التشكيلات القضائية، لكنهم لم ينجحوا، مرّر ما يريده، فارتمت كرة النار بين يدي وزيرة العدل ورئيسي الجمهورية والحكومة، فأصبحوا هم يتحملون مسؤولية تعطيل التشكيلات أو تأخيرها لأسباب ترتبط بالتدخلات السياسية.

أطلق فرنجية تحذيره، تلقف برّي البندقية، ووضع شروطه، من ملفّ المغتربين اللبنانيين وضرورة إعادتهم وعدم التخلّي عنهم، إلى ملفّ التعيينات والتشكيلات، وإلاّ تعليق مشاركته في الحكومة

لم ييأسوا: أعادوا الكرة في ملفّ تعيينات نواب حاكم مصرف لبنان، ورئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف، وهيئة الأسواق المالية. أيقن أنّ “ذريعة” عدم التجديد لأيّ شخصية في أيّ موقع، يهدف إلى تطويقه والسيطرة على أكبر قدر من المواقع المذكورة. جبران باسيل يريد مواقع كل المسيحيين. بين عون ودياب اتفاق ضمني على تعيين سنّة في هذه المواقع غير موالين للحريري وتيار المستقبل، فيكون التأثير الأكبر فيهم على المدى البعيد لمصلحة باسيل. رفع برّي لاءاته، فتأجّلت التعيينات إلى الأسبوع المقبل. هنا يحمي الرجل حصّته، وحصص “المستقبل” ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية، الذي كان قد هدّد بالانسحاب من الحكومة، في حال استمر باسيل بالاستثئار بأزمة كورونا لتمرير التعيينات التي يريدها.

أطلق فرنجية تحذيره، تلقف برّي البندقية، ووضع شروطه، من ملفّ المغتربين اللبنانيين وضرورة إعادتهم وعدم التخلّي عنهم، إلى ملفّ التعيينات والتشكيلات، وإلاّ تعليق مشاركته في الحكومة.

يعرف عون ودياب، أنّ لا حكومة بدون نبيه برّي. خروجه يعني خروج حزب الله وفرنجية. حينها تدخل الحكومة في “كوما” ستؤدّي حتماً إلى استقالتها. إرتعدت الفرائص، أعطى مهلة ليوم الثلاثاء المقبل، لإقرار كلّ ما يتعلّق بتوفير عودة اللبنانيين من الخارج إلى لبنان، وتوفير كلّ احتياجات مواكبتهم صحياً.

من كان يتلكأ سارع إلى العمل، ومن أراد استفزازه عاجل إلى طمأنته. جلسة الثلاثاء ستكون مخصّصة لإقرار كلّ ما يحتاجه المغتربون للعودة. توقيته كان متقناً، قبل يومين من جلسة الخميس التي يفترض أن تشهد إقرار التعيينات. الرسالة وصلت. حزب الله سارع إلى الاتصال بالجميع. لا يمكن استفزاز برّي. تراجع مهاجموه أو الساعون إلى تطويقه. جلسة الثلاثاء ستكون كما يريد، ولا تعيينات إلا وفق إرادته. 

مرّة أخرى، طابة المغتربين أصابت الحكومة. ولاعب البلياردو يعتدل في جلسته، ويثبت مجدّداً أنّ عين التينة لا تنام.

مواضيع ذات صلة

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…