ما جرى داخل لجنة تقصّي الحقائق النيابيّة، المنبثقة عن لجنة المال والموازنة، لم يكن تفصيلاً في سياق الأزمة الماليّة والمعالجات التي سيتجه لبنان إليها. فعلى مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، صادرت هذه اللجنة من الحكومة ملفّ الخسائر والفجوات في القطاع المالي، ووضعت لنفسها مهمّة توحيد المقاربات والمعالجات لتوحيد الموقف اللبناني أمام صندوق النقد. أمّا نتيجة هذا المسار الذي قاده رئيس اللجنة إبراهيم كنعان، فكانت الإطاحة بجميع أرقام ومقاربات الخطّة التي ناقشتها وأقرّتها الحكومة اللبنانيّة، بمباركة من معظم الكتل النيابيّة.
إقرأ أيضاً: سلامة تراجع في بعبدا… والنزال المقبل على هويّة القطاع المصرفي
قبل الدخول في نتائج عمل اللجنة، ثمّة ملاحظة أساسيّة توقّف عندها الكثير من المتابعين لعمل اللجنة. فمن الناحية العمليّة، كان يُفترض أن تنحصر صلاحية لجنة المال والموازنة كلجنة برلمانيّة بالرقابة على عمل الحكومة ومساءلتها عن أعمالها عند الحاجة، أو العمل على مشاريع القوانين كما يجري عادةً عند مراجعة مشروع قانون الموازنة الذي تحيله الحكومة إلى المجلس النيابي.
لكنّ ما الذي جرى خلال الأسابيع الماضية؟
وضعت اللجنة يدها على مهمّة تنفيذيّة كان يُفترض أن تكون من مهام الحكومة ووزرائها بالدرجة الأولى، بل على مهمّة يُفترض أنّ الحكومة قامت بإنجازها والتصويت عليها، وانتقلت بعدها إلى مرحلة عرض الأرقام أمام الرأي العام. أمّا الإشكاليّة الأكبر، فكانت إشارة مصادر السراي الحكومي إلى أنّ رئيس الحكومة نفسه لم يكن حتّى يوم الخميس الماضي يعلم تفاصيل الأرقام التي كان يتمّ الاتفاق عليها داخل اللجنة، فيما اكتفى كنعان لاحقاً بعقد اجتماع معه لإطلاعه على الأرقام، يوم الجمعة، بعد أن تمّ بتّها.
تخلّت اللجنة كليّاً عن مسألة الاقتطاع من قيمة سندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، بعد أن قرّرت خطّة الحكومة إجراء اقتطاع بنسبة 40% من قيمتها
في كلّ الحالات، اجتمعت لجنة المال والموازنة يوم الخميس ووافقت على الأرقام التي خلصت إليها لجنة تقصّي الحقائق. ومن المفترض أن يتّجه النائب إبراهيم كنعان خلال اليومين المقبلين إلى عين التينة لتسليم رئيس المجلس النيابي الخلاصة التي جرى الاتفاق عليها. وبحسب المعطيات المتوفّرة حتّى الآن، يراهن كنعان على الالتفاف الذي حظيت به أرقامه من جانب الغالبيّة الساحقة من الكتل البرلمانيّة، وهو ما سيفرض على الجميع من الآن وصاعداً السير في ضوء هذه الأرقام بدل الأرقام التي وضعتها خطّة الحكومة.
وعند الحديث عن أرقام اللجنة، يمكن القول إنّ ما جرى التوصّل إليه نسف كلّ ما قدّرته خطّة الحكومة من خسائر وفجوات، وهو ما يعني عمليّاً نسف المقاربات التي كانت تنوي السير فيها في ملف المعالجات في المرحلة القادمة. بكلّ بساطة، انخفضت الخسائر في خطّة اللجنة إلى أقلّ من 100 ألف مليار ليرة، بعد أن كانت خطّة الحكومة قدّرتها بنحو 241 ألف مليار ليرة.
للوصول إلى هذا الرقم المنخفض من الخسائر، تخلّت اللجنة كليّاً عن مسألة الاقتطاع من قيمة سندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، بعد أن قرّرت خطّة الحكومة إجراء اقتطاع بنسبة 40% من قيمتها. عمليّاً، كان هذا التعديل الذي أقرّته اللجنة أفضل ما يمكن تقديمه للمصارف ومصرف لبنان، المالكين الأساسيين لهذه السندات، واللذين تحفّظا منذ البداية على مسألة الاقتطاع من قيمتها، وطالبا بحصر التفاوض في المرحلة اللاحقة على آجال طويلة لها وتخفيض فوائدها للحدّ الأدنى. أمّا حجّة اللجنة للقيام بالتعديل والتخلّي عن هذا البند، فكانت حصول هبوط كبير في سعر صرف الليرة، وهو ما يعني تخفيض قيمة هذه السندات بشكل تلقائي دون الاضطرار إلى القيام بأيّ اقتطاع من قيمتها. وهكذا، أدّى إسقاط فكرة الاقتطاع من هذه السندات إلى تخفيض قيمة الخسائر المحتسبة، لكون جزء أساسي من الخسائر التي احتسبتها الحكومة في خطّتها ناتجاً عن احتساب خسائر مصرف لبنان والمصارف جرّاء هذا الإجراء المقترح.
كنعان نجح في نسف أرقام خطّة الحكومة بشكل جذري، وهو ما سيعني حكماً نسف المعالجات التي اقترحتها الخطّة خلال المرحلة المقبلة
لتخفيض الخسائر أيضاً، قامت اللجنة بالتخلّي عن احتساب أكثر من 40 ألف مليار ليرة من الخسائر التي قدّرتها خطّة الحكومة نتيجة تعثّر القروض التي منحتها المصارف للقطاع الخاص، واكتفت بتحديد هذه الخسائر عند مستوى 14 ألف مليار ليرة فقط، عملاً بتقديرات لجنة الرقابة على المصارف. أمّا الحجّة الأساسيّة للقيام بهذا التخفيض، فكان اعتبار اللجنة أن جزءاً كبيراً من هذه القروض ممنوح مقابل ضمانات ورهونات، ولذا، فالمصارف ستكون قادرة على سداد قيمة هذه القروض بمجرّد بيع هذه الضمانات.
كما قامت اللجنة أيضاً باحتساب نحو 16 مليار دولار من الالتزامات المتوجّبة على الدولة لمصلحة المصرف المركزي بالعملة الصعبة، لتخفيض خسائره، فيما كانت خطّة الحكومة قد قررت شطبها لكونها محل نزاع بين وزارة الماليّة ومصرف لبنان. وعلى هذا النحو، سعت اللجنة في كلّ الأرقام التي قامت باحتسابها إلى تقليص الخسائر والفجوات المقدّرة في القطاع المالي، بهدف الوصول في النتيجة إلى أدنى رقم يمكن الوصول إليه.
لذلك، يمكن القول إنّ كنعان نجح في نسف أرقام خطّة الحكومة بشكل جذري، وهو ما سيعني حكماً نسف المعالجات التي اقترحتها الخطّة خلال المرحلة المقبلة. مع العلم أنّ اللجنة أعطت مؤشرات توحي باتجاهها نحو الإطاحة بهذه المعالجات المقترحة، خصوصاً حين أشارت إلى الاتجاه نحو معالجة تدريجيّة للخسائر، وهو ما يعني الابتعاد عن أفكار شطب رساميل المصارف التي تحدّثت عنها خطة الحكومة. وفي كلّ الحالات، أشارت اللجنة إلى أنها ستسير باتجاه مناقشة الحلول والمعالجات خلال الأسبوع المقبل، وهو ما يعني استمرار اللجنة بلعب الدور التنفيذي الذي كان على الحكومة القيام به.
في الخلاصة، يمكن القول إنّ ما فعله إبراهيم كنعان ولجنته، نجح في تخفيض أرقام الخسائر شكليّاً، لكنّه عمليّا سيبعد المعالجات عن التعاطي مع جذور المشكلة. فعدم الاعتراف بضرورة التفاوض على أصل الدين العام لتخفيضه إلى مستويات منطقيّة، وعدم الاعتراف بخسائر القطاع المصرفي الناتجة عن تعثّر قروضه التي لا يمكن سدادها ببيع الضمانات العقاريّة التي تمثّل بيوت اللبنانيين في حالة القروض السكنيّة مثلاً، كلّها عوامل تدلّ على تجاوز جذور الأزمة الماليّة.
هذا تقييم مبدئي لما فعلته لجنة تقصّي الحقائق المالية اللبنانية ، يتقرّر مصيره في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. إلاّ أنه لا بدّ من الاعتراف بأن رئيس اللجنة ابراهيم كنعان استطاع أن يطفئ “ناراً” كادت أن تأتي على مستقبل لبنان لعشرات السنوات المقبلة. فأثبت أنه قارئ جيّد لتطوّرات في المنطقة قادمة خلال أشهر “ولو طويلة” تجعل من أرقام لجنته واقعاً بحماية دولية.