إذا كانت أوروبا قلقة بشأن مخاطر الذكاء الصناعي وتريد حقّاً الاحتفاظ بالسيطرة على تطوّر النماذج الذكيّة، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية قلقة بشأن عمالقة التكنولوجيا على أراضيها. يأتي هذا القلق من الاعتقاد أنّ الإفراط في التنظيم يمكن أن يخنق الابتكارات والتطوّرات التقنية. أمّا في الصين فالوضع يختلف لأنّ التشريعات مركزية ومركّزة.
تُعتبر الولايات المتحدة والصين الدولتين الأكثر قوّة في عالم الذكاء الصناعي، وكلّما زادت البيانات كانت التطبيقات أفضل وذات نتائج أفضل. لذلك كميّة البيانات هي التي ستحدّد نسبة التفاعل الاقتصادي وأثره العالمي. مع أنّ دولاً أخرى تلعب دوراً في بناء التطبيقات الذكية كسنغافورة وألمانيا. وكلّ ذلك يؤدّي إلى جذب مواهب تساعد في الابتكار والتطوير.
إذا كانت أوروبا قلقة بشأن مخاطر الذكاء الصناعي وتريد حقّاً الاحتفاظ بالسيطرة على تطوّر النماذج الذكيّة، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية قلقة بشأن عمالقة التكنولوجيا على أراضيها
التشريعات الصينيّة
في الصين، تأتي التشريعات من الإدارة السياسة إلى الشركات، وقد طرحت في نيسان الماضي مشروع قانون عامّ للذكاء الصناعي. وبسبب الآلية المركزية لاتّخاذ القرارات، سيكون القانون الصيني أوّل تشريع في العالم بشأن التقنيات الرقمية يدخل حيّز التنفيذ. ما سيضع النهج التنظيمي الصيني من أعلى إلى أسفل، الذي يتميّز برقابة الدولة، في مواجهة نهج الولايات المتحدة، الذي يتّكل على مؤسّسات التكنولوجيا في وضع تشريعات معتمدة.
تطلب بكين من شركات التصنيع الالتزام بسياسة الدولة حتى لو كان سيؤدّي ذلك إلى التضحية بمصالح هذه الشركات الأكثر ابتكاراً. وفي الوقت نفسه تحفّزها على تطوير أنظمة المحادثة التوليدية للذكاء الصناعي، شرط الالتزام بمشروع القانون الذي يطالب بالتالي:
– أن تكون هذه المؤسّسات مسجّلة لدى الحكومة.
– أن تقوم باختبارات الأمان قبل طرح الأنظمة للجمهور.
– ألا تضلّل وأن تحترم الملكية الفكرية في التدريب التوليدي لنموذج الذكاء الصناعي.
– أن تعكس البيانات “القيم الأساسية الاشتراكية”.
– أن لا تدعو إلى الانقلاب على السلطة والتحريض والمسّ بالوحدة الوطنية.
– أن لا “يزعج” المحتوى الأنظمة الاقتصادية أو الاجتماعية.
الاستثمار الصيني منذ 2017 طموح جدّاً، إذ يصل في مجال التطبيقات لسنة 2030 إلى أكثر من 140 مليار دولار، والعديد من السياسات الصينية تطمح إلى توجيه رأس المال نحو تطوير الذكاء الصناعي. بشكل عامّ عادة ما يتناسب مستوى دعم الدولة مع زيادة السيطرة السياسية.
في الولايات المتّحدة: الشركات تشرّع
على عكس الصين، يحاول البيت الأبيض أن تكون التشريعات من الأسفل إلى الأعلى. لذلك دعا مجلس الشيوخ والبيت الأبيض صُنّاع التطبيقات إلى اجتماعات في واشنطن لمناقشة المخاطر التي من الممكن أن يشكّلها الذكاء الصناعي. وعُقدت جلسات مشتركة بين المشرّعين والمصنّعين في محاولة لتحديد أفضل السبل لوضع تشريعات تنظّم الذكاء الصناعي إن وُجدت. وفي هذه الاجتماعات تهيمن شركات التكنولوجيا الكبرى على المحادثات التي تتناول كيفية صياغة سياسة الذكاء الصناعي بينما تأخذ الجهات التنظيمية مقعداً خلفيّاً.
لكن على الرغم من الاجتماعات والدعوات والخطابات، يبدو أنّ الولايات المتحدة ليست في عجلة من أمرها لطرح تشريعات وطنية بشأن الذكاء الصناعي، تاركةً مسألة كيفية التحكّم في التكنولوجيا لصنّاع التكنولوجيا.
تشير دراسات مؤسّسة “بروكينغز” (Brookings Institution)، إلى أنّه “بشكل عامّ، لم تضع الوكالات الفدرالية حتى الآن الخطط التنظيمية المطلوبة للذكاء الصناعي”، وأنّ الحكومة لا تتفاعل مع تزايد قوّة أنظمة الذكاء الصناعي بشكل مناسب.
تُعتبر الولايات المتحدة والصين الدولتين الأكثر قوّة في عالم الذكاء الصناعي، وكلّما زادت البيانات كانت التطبيقات أفضل وذات نتائج أفضل
يخشى بعض صانعي السياسات في الولايات المتحدة أن يؤدّي الإفراط في التنظيم إلى إبطاء تطوير تكنولوجيا الذكاء الصناعي وإعطاء الصين ميزة الأولوية، فيما عدم التنظيم سيؤدّي إلى تآكل الشفافية وإلى عدم معرفة كيف تعمل الخوارزميات، كما حصل سابقاً مع شبكات التواصل (فيسبوك) وشركة “كمبريدج أنالتيكس” التي ساهمت في تعديل خيارات الأفراد نتيجة انتهاك الخصوصية والمعلومات المضلّلة التي ساعدت في فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016 وفي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عبر استفتاء شعبي.
تحاول الإدارة الأميركية، من خلال دعوتها صنّاع التقنيات، المساعدة على فهم هذه التقنيّات وفوائدها ومخاطرها، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه ولتجنّب الأخطاء السابقة. ومن المثير للجدل أنّ الرؤساء التنفيذيين للشركات يدعون بمعظمهم إلى تنظيم تشريعات، ولكن هل سيطبّقون فعلاً هذه التشريعات والمعايير عندما يصرّح أكثرهم أنّ التشريعات من الممكن أن تحدّ من تطوّر التطبيقات؟
لقد صرّح بايدن أخيراً أنّ الذكاء الصناعي يؤثّر على الأمن القومي والتعليم، إلا أنّ الإدارة الأميركية، بعد الاجتماع مع مايكروسوفت وغوغل و”أوبن آي إي”، اكتفت بدعوة هذه الشركات إلى التزام “نموذج السلوك المسؤول” و”اتخاذ الإجراءات لضمان الابتكار المسؤول والضمانات المناسبة”. إنّه كلامٌ عامّ يعتبر المراقبون أنّه يدلّ على أنّ الإدارة الأميركية لن توقّع على أيّ تشريع على المستوى الفدرالي بشأن الذكاء الصناعي قريباً جداً، على الرغم من الإجراءات التنظيمية المتعدّدة على مستوى الدولة. والسؤال هو: هل الخوف فعلاً على الإنسان أم على الأمن القومي من الصين؟
المبادرات عديدة، كتلك التي قدّمتها إدارة بايدن: “مخطط لميثاق حقوق الذكاء الصناعي” (Blueprint for a AI Bill of Rights)، لكن من دون الخوض في تفاصيل كيفية تنفيذها في الممارسة العملية.
ما رأي الشركات المصنّعة؟
بعض الشركات المصنّعة كغوغل ومايكروسوفت تعمل على تشريعات خاصة تلتزم فيها “السلامة والشمولية والمساءلة” كمبادئ أساسية في تطوير ونشر منتجاتها. وتقوم هذه المؤسّسات بإنشاء فرق لتنظيم آليّة عمل التطبيقات، من خلال فحص بيانات التدريب قبل طرح البرنامج.
فهل هذا يكفي؟
إذا درّبنا التطبيقات على بيانات “جيّدة” فستعطينا التطبيقات نتائج جيدة، والعكس صحيح. لكن، عملياً، هل نستطيع التحكّم الكامل بالتطبيقات؟ فقد بدأت بعض مجموعات المقرصنين وغيرها بتدريب التطبيقات على بيانات غير صحّية فأعطتنا نتائج مضلّلة.
ينبع التخوّف في الولايات المتحدة من كون حوكمة الذكاء الصناعي قد تعني إبطاء التقدّم وسط المنافسة الشديدة بين اللاعبين الرئيسيّين. ومن الصعب الارتكاز على ما تُصرّح به الشركات من أنّها ستمارس رقابة ذاتية على ما تصنعه. المنافسة داخلية فيما بينها، ولا يناسبها تحديد المهمّات، والمنافسة خارجية مع الشركات الصينية، وهذا ما يناسب الإدارة السياسية لأنّ التنافس الأميركي الصيني هو تقنيّ. ويشبّه البعض هذا التنظيم الذاتي بمن يضع رجله على المكابح والوقود في الوقت نفسه.
إقرأ أيضاً: قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (1/3): أوروبا “تتقدّم”
المفارقة أنّه عندما سمع رئيس شركة “أوبن إيه آي” أنّ أوروبا ستضع تشريعات جديدة، قال إنّه “سيخرج من سوق الاتحاد الأوروبي إذا كانت القوانين صارمة”، فردّ عليه المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون واصفاً كلامه بأنّه “ابتزاز”، فتراجع رئيس الشركة وحذف التغريدة.
ليس لصناعة الذكاء الصناعي في الولايات المتحدة حافز كبير لتتحمّل تكاليف تنظيم نفسها بأيّ طريقةٍ ذات مغزى، على عكس أوروبا. فلم تؤدِّ أيٌّ من الرسائل العديدة، التي تدعو إلى التوقّف عن العمل لمدّة ستّة أشهر وتحذّر من مخاطر الذكاء الصناعي، إلى اتّخاذ إجراءات تشريعية أو إجراءات أخرى حتى الآن. لكنّ ذلك لفتَ الانتباه إعلاميّاً.