قلب مديرة صندوق النقد “مفطور” على لبنان: الحكومة رسبت في كل الامتحانات..

مدة القراءة 5 د


لا يمكن النظر باستخفاف إلى عبارة “قلبي ينفطر على لبنان” التي أطلقتها مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا في معرض حديثها عن الأزمة الماليّة اللبنانيّة ومسار المفاوضات مع الوفد اللبناني. ما يمكن تلمّسه من عبارة تخطّت الأدبيّات الدبلوماسيّة المعهودة التي يتصف بها مسؤولو المؤسسات الماليّة الدوليّة، هو ببساطة إحباط ويأس وفد الصندوق من مسار المفاوضات مع لبنان، وخصوصاً من جهة “جديّة” الحكومة في تطبيق الإصلاحات التي يجري الحديث عنها خلال الاجتماعات مع الوفد اللبناني.

 إقرأ أيضاً: من الأخطاء الكبرى على طريق “صندوق النقد”: استبعاد مصرف لبنان

مصادر متابعة لعمل الصندوق ومفاوضاته مع الوفد اللبناني تصف لـ”أساس” المشهد: وفد الصندوق يدرك حساسيّة عمله وموقعه في هذه المرحلة، وهو ما يدفعه للابتعاد قدر الإمكان عن الأضواء وتفادي الإدلاء بأيّ تصريحات يمكن أن تمسّ بالتوازنات السياسيّة الداخليّة. لكنّه في الوقت نفسه يتابع بدقّة شديدة جميع خطوات الحكومة، بأصغر تفاصيلها، خصوصاً تلك التي يمكن أن تعبّر عن مستوى جديّة الحكومة وأقطابها في تنفيذ الإصلاحات الضروريّة للخروج من المأزق المالي. وخلال الأسابيع الماضية، جمع المسؤولون في الصندوق ما يكفي من مؤشّرات تدلّ على صعوبة، أو حتّى استحالة، تنفيذ أبسط الإصلاحات المطلوبة من لبنان قبل أو خلال الدخول في برنامج قرض الصندوق أو غيره من الجهات الدوليّة المانحة.

كانت خطّة الكهرباء واحدة من أبرز محاور اهتمام وفد الصندوق، بالنظر إلى القدر الذي استنزفه تاريخيّاً هذا الملف من ميزانيّة الدولة

كانت الإطاحة بالتعيينات القضائيّة أبرز الإشارات السلبيّة التي عبّرت من خلالها السلطة في لبنان عن استحالة الدخول في مسار إصلاحي جدّي يعيد تصويب الأمور، خصوصاً أنّ تكريس استقلاليّة السلطة القضائيّة وتعزيز قدرتها على مكافحة الفساد يمثّل بالنسبة إلى الصندوق ووفده أولويّة لا يمكن تجاوزها. مع العلم أن وفد الصندوق كان قد توجّه إلى المسؤولين اللبنانيين بأسئلة متكرّرة عن مصير هذه التعيينات، دون أن يتلقّى أيّ إجابات شافية. باختصار، عبّر تعثّر مسار التعيينات القضائيّة عن ذهنيّة تحاصصيّة تسيطر على أداء السلطة وأقطابها في لبنان، وتتحكّم بقراراتها، وإن على حساب الإجراءات الإنقاذيّة المطلوبة في هذه المرحلة الحسّاسة بالذات.

كما كانت خطّة الكهرباء واحدة من أبرز محاور اهتمام وفد الصندوق، بالنظر إلى القدر الذي استنزفه تاريخيّاً هذا الملف من ميزانيّة الدولة. لكنّ الخطّة تحوّلت سريعاً إلى إحدى مؤشّرات عدم الجديّة في التعامل مع الإصلاحات المطلوبة، خصوصاً بعد الخلاف التي اندلع حول معمل سلعاتا، وتمكّن فريق التيار الوطني الحر من إجبار الحكومة على إعادة تعويم المعمل. وضعت هذه التطوّرات السلطة بأسرها في موقع الريبة في ما يتعلّق بملف الكهرباء، خصوصاً أن رائحة الصفقات كانت تنبعث من قضيّة معمل سلعاتا، وهو ما كان يؤكّد أن الحكومة غير قادرة على مقاربة هذا الملف دون الدخول في زواريب الفساد والتنفيعات المتبادلة.

وفي موضوع التهريب، بات واضحاً أن الحكومة لم تستطع أن تفرض القرار السياسي المطلوب لوقف هذه الظاهرة، مع العلم أن التعاطي مع هذا الملف كان من أولى الأولويّات جميع الجهات المانحة الدوليّة وفي مقدّمها صندوق النقد. فبالنسبة إلى أيّ جهة مانحة، وفي ظلّ التفلّت الموجود حاليّاً على الحدود، سيكون أيّ دعم مالي يُمنح إلى لبنان عرضة للتبديد في عمليّات تهريب السلع المدعومة عبر الحدود. مع العلم أنّ جميع الخطوات التي أتخذتها الحكومة في ما يتعلّق بهذا الملف كانت أقرب إلى العراضات الإعلاميّة التي لم تؤدّي إلى أيّ معالجة جذريّة على الأرض.

أما التعيينات الإداريّة الأخيرة، فمثّلت أسوأ أداء يمكن أن تقدّمه الحكومة كمؤشّر على درجة جديّتها في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. فهذا المسار دخل في مرحلة طويلة من التأجيل على خلفيّة النزاعات بين أقطاب الحكومة على تحاصص المناصب، ثم خرجت الحكومة بتعيينات معيارها الأساسي الولاء السياسي للأشخاص الذين تمّ تعيينهم في هذه المناصب ولو على حساب الكفاءة. وعمليّاً، ضاعف من سوء هذا الأداء لجوء الحكومة إلى المسارعة في تهريب هذه الأسماء بعد فترة طويلة من المماطلة، لتفادي تطبيق آليّة التعيين التي صوّت عليها المجلس النيابي. باختصار، كان كلّ ذلك يُعيد التأكيد على عقليّة التحاصص التي تسود داخل الحكومة، حيث بات رئيس الحكومة “التكنوقراطي” نفسه جزءاً منها بعد أن أصبح لديه محاسيب يسعى لإيصالهم إلى المناصب الحسّاسة، ويفاوض ويقايض ويؤجّل لانتزاع المراكز الإداريّة لهم.

خرجت الحكومة بتعيينات معيارها الأساسي الولاء السياسي للأشخاص الذين تمّ تعيينهم

باختصار، لا يوجد ما يبشّر بالخير في عيون صندوق النقد الدولي، وهذا ما عكسه التصريح الأخير لمديرة الصندوق، الذي أوحى بشعور مسؤولي الصندوق أن لا أفق للمفاوضات الدائرة حاليّاً مع الوفد اللبناني. لكنّ السؤال الفعلي هنا سيكون عن رهانات السلطة المقبلة، بعد أن أفقدها سوء الأداء الرهان الأخير الذي كانت تنتظره قبل الوصول إلى أسوأ مراحل الانهيار النقدي والمالي. وعدم التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد، سيعني أيضاً الإطاحة بإمكانيّة الحصول على أيّ دعم مالي خارجي آخر، كون تقييم صندوق النقد يُعدّ بالنسبة إلى جميع الجهات الدوليّة الداعمة “باروميتر” لقياس جديّة لبنان في تنفيذ الإصلاحات. وفشل لبنان في التفاهم معه، سيعني بالنسبة إلى هذه الأطراف رسوبه في الامتحان الأخير. كلّ ذلك لا يقود عمليّاً سوى إلى الهاوية على المستوى الاجتماعي والمعيشي، وهو ما لن يتمكّن أحد من الأقطاب الداعمين لهذه الحكومة من تحمّله. ما قد يؤدّي إلى فتح باب التفكير باستبدال دياب وحكومته.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…