قرار استعادة الودائع: ماذا يخبّىء سلامة؟

مدة القراءة 6 د


ما إن صدر تعميم مصرف لبنان الذي تضمّن بنوداً تطالب باستعادة جزء من الودائع التي جرى تحويلها منذ بداية 2017 إلى النظام المصرفي، حتّى ظهرت زوبعة من التساؤلات والاعتراضات من زوايا عدّة. ثمّة من يعتقد أنّ مصرف لبنان لا يملك أيّ آليّة لتطبيق التعميم أو فرض هذه البنود، بينما هناك من يعترض على مبدأ المطالبة بهذه الأموال وشريحة الأموال التي جرى تحويلها والتي يشملها التعميم. عملياً، يمكن القول إنّ هناك الكثير من الفجوات في كلّ ما يتعلّق بهذه الخطوة، وهو ما يدلّ على أنّ هناك ما لم يفصح عنه مصرف لبنان بعد في ما يخص هذا الإجراء.

إقرأ أيضاً: بعد استنزاف الاحتياطي: الدولار إلى 21 ألف ليرة؟

يطلب التعميم رقم 154 من المصارف اللبنانيّة “حثّ” عملائها، الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها الـ500 ألف دولار أو ما يوازيها بالعملات الأجنبيّة إلى الخارج منذ أوّل تموز 2017، على إعادة 15% من القيم المحوّلة وإيداعها في “حساب خاص” مجمّد لمدّة خمس سنوات. أمّا إذا كان العميل المعني أحد رؤساء أو أعضاء مجالس ادارة المصارف، أو أحد كبار المساهمين فيها، أو أحد الأشخاص “المعرّضين سياسياً”، أي الذين يشغلون مناصب تنفيذيّة أو تشريعيّة أو إداريّة عليا في الدولة، فتصبح النسبة التي يقتضي إعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات هي 30% من قيمة التحويلات التي تمّت إلى الخارج.

هذا البند لا يوضح ما هو المقصود بـ”التقاعس” عن تطبيق القرار: فهل المقصود تقاعس المصارف عن حثّ عملائها على إعادة جزء من الأموال التي جرى تحويلها؟

عمليّاً، بدا واضحاً أنّ حاكم مصرف لبنان حرص في التعميم على استعمال عبارة “حثّ” العملاء تحديداً، لعدم وجود أيّ مسوّغ قانوني يمكّن المصارف من فرض إعادة هذه الودائع إلى الحساب الخاص. كما لا يملك مصرف لبنان أيّ طريقة تمكّنه من تتبع هذه الأموال وإعادتها إلى النظام المصرفي بالقوّة في حال لم يتجاوب أصحاب هذه الودائع مع التعميم. أما السؤال الأهم، فكان عن غاية التعميم منذ الأساس، طالما أنّه من الأكيد أنّ أيّ عميل لن يبادر إلى إعادة جزء من أمواله إلى النظام المصرفي اللبناني المتعثّر، بعد تمكّنه من تحويلها إلى الخارج قبل حصول الأزمة، لمجرّد أن المصرف “حثّه” بناءً على تعميم مصرف لبنان على ذلك. وبكلمة، فإنّه منذ صدور التعميم دارت شكوك حول واقعيّة الطلب، وحول قدرة المصرف المركزي على تنفيذه لاحقاً.

في الواقع، تحيلنا هذه الأسئلة إلى البند الخامس من التعميم، الذي ينصّ على إحالة كلّ من يتقاعس عن تطبيق أحكام هذا القرار إلى التدابير والعقوبات المنصوص عليها في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتحديداً البنود المتعلّقة بالتهرّب الضريبي والإثراء غير المشروع. لكن هذا البند لا يوضح ما هو المقصود بـ”التقاعس” عن تطبيق القرار: فهل المقصود تقاعس المصارف عن حثّ عملائها على إعادة جزء من الأموال التي جرى تحويلها؟ أم أنّ الحاكم كان يشير بذلك إلى تقاعس المودعين أنفسهم، أو المساهمين في المصارف، عن الامتثال لطلب إعادة جزء من أموالهم؟ وإذا كان الحاكم يقصد بذلك التقاعس عن إعادة الودائع، فهل هناك أيّ نص قانوني يبرّر ملاحقة المودع في حال رفضه إعادة هذه الأموال، علماً أنّ كلّ هذه التحويلات جرت بغياب قانون “كابيتال كونترول”، فيما جرت التحويلات قبل تشرين الأول الماضي في ظلّ عدم وجود أي قيود مصرفيّة على الإطلاق.

ثمّة اعتراضات واضحة حول بنود التعميم في العديد من الأوساط. فالمستوردون رفضوا أن يخصّهم التعميم ببند يفرض إعادة نسبة 15% من الاعتمادات المستنديّة التي فتحوها خلال السنوات الثلاث الماضية إلى النظام المصرفي ليتمّ تجميدها لمدّة خمس سنوات

عمليّاً، تشير الفرضيّة الأكثر شيوعاً اليوم إلى أنّ الحاكم أراد من البند الخامس التلويح بإمكانيّة إحالة ملف أصحاب التحويلات التي لا تمتثل إلى القرار إلى هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، للتحرّي حول إمكانيّة انطواء التحويلات على تهرّب ضريبي أو إساءة استعمال نفوذ أو إثراء غير مشروع. بمعنى آخر، وطالما أن الحاكم يعلم أنّه لا يملك السند القانوني لملاحقة أصحاب التحويلات لمجرّد رفضهم إعادة جزء منها إلى النظام المصرفي. فالخيار البديل الذي يراهن عليه الحاكم، هو التهديد بإمكانيّة فتح ملفات هؤلاء من ناحية مصدر هذه الأموال ومدى امتثالهم للقوانين الضريبيّة، في حال التقاعس عن تنفيذ القرار الجديد. وبما أنّ التهرّب الضريبي يمثّل أبرز سمات المنظومة الاقتصاديّة في لبنان، فمن الأكيد أن مجرّد الكلام عن فتح الملفّات الضريبيّة من قبل هيئة التحقيق الخاصّة تحديداً، التي تملك صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، كفيل بالضغط على جزء كبير من أصحاب هذه التحويلات للامتثال للتعميم الأخير.

حتّى اللحظة، تظلّ كلّ هذه السيناريوهات مجرّد فرضيّات وتكهّنات، بينما لا يوجد اليوم إجابات حاسمة داخل مصرف لبنان نفسه حول آليّات تطبيق التعميم أو فرض تنفيذه. كلّ ذلك يوحي بأنّ ثمّة ما لم يقله حاكم مصرف لبنان حتّى اللحظة بخصوص هذا القرار، خصوصاً أنّ الجميع يدرك أنّ الحاكم لن يبادر إلى إطلاق تعميم أساسي دون أن يملك تصوّراً مسبقاً حول كيفيّة ترجمته على أرض الواقع. 

في المقلب الآخر، ثمّة اعتراضات واضحة حول بنود التعميم في العديد من الأوساط. فالمستوردون رفضوا أن يخصّهم التعميم ببند يفرض إعادة نسبة 15% من الاعتمادات المستنديّة التي فتحوها خلال السنوات الثلاث الماضية إلى النظام المصرفي ليتمّ تجميدها لمدّة خمس سنوات، خصوصاً أنّ هذه التحويلات جرت مقابل شراء بضائع، ولا يمكن عدّها عمليات تحويل ودائع إلى الخارج لتطالب المصارف باستعادة هذه الودائع.

في المقابل، اعترض بعض المودعين على مبدأ شمل جميع التحويلات التي جرت بعد الأوّل من تموز 2017 بالتعميم، خصوصاً كون التحويلات التي جرت قبل تشرين الأول الماضي لا ينطبق عليها مبدأ التمييز أو الاستنسابيّة بين المودعين، إذ كان خيار التحويل متاحاً لجميع عملاء المصارف دون استثناء. مع العلم أنّ أصحاب الودائع الذين اختاروا تحويلها إلى الخارج قبل تشرين الأول الماضي، خسروا الفوائد المرتفعة التي كان يعرضها النظام المصرفي اللبناني، في مقابل عدم تحمّل مخاطر إبقاء هذه الودائع في لبنان. وبالتالي فمن غير المنصف برأي بعض الخبراء أن يتمّ الضغط عليهم لإعادة جزء من هذه الودائع إلى النظام المصرفي بعد حصول الانهيار في النظام المالي.

في كل الحالات، تبقى جميع الاعتراضات والتحليلات مبنيّة على التكهّنات والتفسيرات المختلفة لبنود التعميم الجديد. أما الأكيد، فهو أنّ الأيام المقبلة ستحمل الخبر اليقين في كلّ ما يخصّ آليات تطبيق هذا التعميم، وفي كلّ ما سينتظر أصحاب التحويلات التي جرت منذ الأوّل من تموز 2017.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…