راهن النظام السوري طوال الفترة الماضية على حقبة إعادة الإعمار التي يتنظرها بفارغ الصبر، مع كلّ ما توقّعه من هذه الحقبة من مشاريع وصفقات قد تثير شهيّة مقتنصي الفرص من أفراد ودول، ومع كلّ ما يعنيه ذلك من مغريات اقتصاديّة يمكن أن تدفع كثيرين لتطبيع العلاقات السياسيّة مع النظام. فذهب النظام بعيداً في رهانه على هذه الحقبة، إلى حدّ تنظيم مؤتمرات استثماريّة ضخمة أحاطها بقدر كبير من الاهتمام الإعلامي من جانبه ومن جانب حلفائه. وفي بيروت، عُقدت أيضاً مؤتمرات استثماريّة بشّرت بالمرحلة المقبلة، فيما روّجت أوساط سياسيّة وإعلاميّة لبنانيّة قريبة من النظام لحصول القريبين من النظام على “غنائم” مرحلة إعادة الإعمار، وما يمكن أن يجنيه لبنان من هذه المرحلة إذا طبّع علاقته مع النظام السوري.
لكنّ في مكان آخر من هذا العالم، كان “قانون قيصر” يُطبخ في أروقة الكونغرس على نار هادئة طوال هذا الوقت، ليشكّل ضربة كبيرة لكلّ تلك الرهانات. فالقانون الذي استمدّ اسمه من اسم مستعار لمصوّر سوري وثّق عشرات آلاف حالات التعذيب التي قام بها النظام السوري، وهرّب صورها و”شهد” بها أمام الكونغرس الأميركي، سيدخل حيّز التنفيذ مطلع شهر حزيران، أي خلال أيام، وسيستهدف بالعقوبات الماليّة المشدّدة كلّ من يثبت تورّطه في دعم الرئيس السوري بشار الأسد أو تقديم التمويل له ولنظامه، بالإضافة إلى الشركات التي تنخرط مع النظام في استثمارات متعلّقة بالبنية التحتية وإنتاج الطاقة والصيانة العسكريّة. كما يستهدف القانون بالعقوبات الكيانات الروسيّة والإيرانيّة التي توفّر الدعم للرئيس السوري.
إقرأ أيضاً: من الأخطاء الكبرى على طريق “صندوق النقد”: استبعاد مصرف لبنان
في الواقع، من المبكر الجزم منذ الآن بالقائمة الكاملة للأسماء التي ستكون مشمولة بهذا القانون خلال الفترة المقبلة، فهي ستعتمد على لوائح ستصدر تدريجيّاً بعد دخول القانون حيّز التنفيذ، بالإعتماد على تبليغات بدأت بالتوالي منذ الآن وشملت مئات أسماء أفراد وكيانات متورّطين بدعم نظام أسد. بمعنى آخر، سيكون علينا خلال الفترة المقبلة رصد هذه اللوائح لمعرفة مدى اتّساع رقعة العقوبات، ولو أنّ القانون نفسه يحدّد منذ الآن طبيعة الأنشطة والأشخاص الذين سيكونون مشمولين بهذه العقوبات. مع العلم أنّ عملية إضافة الأسماء إلى هذه اللوائح ستكون عملية تفاعلية مستمرّة، بمعنى أنّ هذه اللوائح ستُحدّث باستمرار بالاعتماد على التبليغات الجديدة والمعلومات المتوفّرة.
مسألة العقوبات الأميركيّة على النظام ليست جديدة، إذ يخضع النظام السوري لأنواع مختلفة من العقوبات الأميركيّة منذ تصنيفه كدولة راعية للإرهاب سنة 1979، فيما جرى توسيع نطاق هذه العقوبات سنة 2004 بعد الغزو الأميركي للعراق وتفعيل قانون محاسبة سوريا. ثم جرى فرض عقوبات إضافيّة على النظام منذ اندلاع الثورة السوريّة سنة 2011. فما الجديد في قانون قيصر إذاً؟
بحسب مصادر سوريّة معارضة ساهمت في مسار التحضير للقانون منذ بداياته، تختلف العقوبات التي ستنتج بفعل قانون قيصر بشكل جذري عن كافّة العقوبات السابقة التي خضع لها النظام السوري، سواء من ناحية نطاق هذه العقوبات، أو من ناحية آليّة تنفيذها في الولايات المتحدة.
بحسب مصادر “أساس”، ستتوسّع قائمة المستهدفين لتشمل الأشخاص الذين يساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في تقديم خدمات البناء أو الإنشاء أو الهندسة لمصلحة النظام السوري، وأيّ طرف يساهم في تمويل النظام من خلال الإقراض، أو ينخرط في مشاريع ضمن قطاعي الطاقة أو الطيران، كما الشركات التي يمكن أن تساهم في عمليات إنتاج البترول والغاز الطبيعي في الحقول السوريّة. باختصار، هذه المرّة لن تكتفي العقوبات بتضييق الخناق على التعاملات الماليّة التي يجريها النظام السوري أو المسؤولون فيه، بل ستشمل أيّ طرف يمكن أن ينخرط في أعمال استثماريّة مع النظام في قطاعات اقتصاديّة واسعة. وبذلك، ستشكّل هذه العقوبات ضربة كبيرة لكلّ جهود النظام لتطبيع علاقاته السياسيّة دوليّاً، من خلال المراهنة على جاذبيّة الاستثمار في سوريا في مرحلة إعادة الإعمار.
الأهم في هذه العقوبات يكمن في آليّات تنفيذها داخل الكونغرس والإدارة الأميركيّة، ولعلّ هذا ما عمل واضعو القانون على صياغته بشكل دقيق. فتطبيق القانون سيتمّ من خلال آليّة قانونيّة محكمة ومزدوجة، تمرّ من خلال الكونغرس نفسه، بالإضافة إلى وزارة الخارجيّة. وبذلك، فتنفيذ هذه العقوبات سيتمّ وفقاً لمعايير محدّدة، ولن تخضع لقرارات شخصيّة داخل الإدارة الأميركيّة.
وستتضمّن العقوبات، للمرّة الأولى، آليّة تصاعديّة وتفاعليّة لفرضها على جميع الأطراف التي تحاول الالتفاف عليها. فعلى سبيل المثال، ستشمل العقوبات أيّ شخص يحاول التملّص من العقوبات عبر تأسيس شركات “أوف شور” في الخارج للتعامل مع النظام كما لو أنّه جهة مسؤولة داخل النظام السوري. وبذلك سيكون من الصعب إيجاد ثغرات يمكن أن يراهن عليها النظام السوري لفتح قنوات تجاريّة أو استثماريّة.
سيكون موقع لبنان في معادلة العقوبات على سوريا محور اهتمام الكثير من الأطراف، وهو ما يفسّر اندفاعة الأوساط الحليفة للنظام السوري مؤخّراً للتحذير من مساهمة لبنان في هذه العقوبات عبر التشدّد في مراقبة الحدود
الخناق سيضيق إذاً. ومع دخول العقوبات حيّز التنفيذ الأسبوع المقبل، يتوقّع أن يكون المصرف المركزي السوري وكلّ الجهات التي تتعامل معه أوّل الجهات الرسميّة المشمولة بها، وهو ما سيعني دخول النظام المالي السوري في عزلة اقتصاديّة تامّة. وبذلك، ستتوجّه الأنظار تلقائيّاً إلى المسارب التي يمكن أن يراهن عليها النظام السوري لتنفيذ الأنشطة الاقتصاديّة المطلوبة للاستمرار، والتي تكمن تحديداً في القنوات المتاحة للتهريب.
عمليّاً، ستكون المنافذ البريّة بين لبنان وسوريا تحت المجهر خلال الفترة المقبلة، وذلك لارتباطها بالجانب المتعلّق بتهرّب النظام السوري من العقوبات من ناحية، ولارتباطها بآثار نقديّة وماليّة شديدة الخطورة على لبنان من ناحية أخرى. وبينما ستهتمّ الإدارة الأميركيّة حكماً بالهامش الذي ستمنحه هذه العمليّات للنظام السوري للتملّص من العقوبات، سيكون موضوع التهريب بالتحديد مصدر قلق رئيسي لصندوق النقد الدولي في مفاوضاته مع الدولة اللبنانيّة، خصوصاً أن الصندوق سيحرص بالتأكيد على عدم تقديم أيّ سيولة يمكن أن تتسرّب وتُهدر لاحقاً عبر الحدود في عمليّات تهريب السلع المدعومة من الدولة اللبنانيّة، عبر مصرف لبنان، إلى سوريا.
في الخلاصة، سيكون موقع لبنان في معادلة العقوبات على سوريا محور اهتمام الكثير من الأطراف، وهو ما يفسّر اندفاعة الأوساط الحليفة للنظام السوري مؤخّراً للتحذير من مساهمة لبنان في هذه العقوبات عبر التشدّد في مراقبة الحدود.
بالتأكيد سيكون من الصعب إيجاد المعالجات المطلوبة لمعالجة مسألة التهريب دون تعاون “قوى الأمر الواقع” كما سمّاها حليفها جبران باسيل نفسه. لكنّ استمرار هذا التفلّت سيكون له آثار وخيمة على مستوى الأزمتين الماليّة والنقديّة في لبنان، سواء من ناحية استنزاف دولارات مصرف لبنان أو من ناحية تعريض البلاد للمتاعب الناتجة عن مخالفة العقوبات الأميركيّة. لكلّ هذه الأسباب، ستكون العيون شاخصة على الحدود في المرحلة القادمة.