قائد الجيش: فاتورة الرئاسة… باكراً

مدة القراءة 6 د


بين منزلتي “الملامة والتخوين” والرفع على الأكتاف يقف جوزف عون على خط التماس مع النصف الثاني من ولاية رئاسية نصّبته قائداً للجيش بوشاح “برتقالي” كاد خلال الأسابيع المنصرمة أن يلتّف على رقبته إلى حدّ الاختناق.

قد يكون مفهوماً سرّ الانقلاب على “جنرال” أريد له أن يكون خاتماً بأصبع العهد وحلفائه تماماً كما “المختارين” بشحطة قلم من الوزير جبران باسيل. هذا ليس طبع الرجل، ولا “مدرسته”. في “حضرة” الشارع المنتفض، في سابقة لم يشهدها تاريخ لبنان، لم يتصرّف “جنرال اليرزة” بما يوحي أنه رجل محور. سيفسّر ذلك حجم الغضب عليه… والاحتضان من الحليف والخصم، في اللحظة نفسها.

سيفسّر ذلك أكثر “تمنياتٌ” أخذت شكل “الشائعة” حول وضع جوزف عون في الإقامة الجبرية أو إقالته. لا شخصيته ولا الظرف ولا الدور سيجعل منه إميل بستاني آخر، الذي تفوّق طموحه السياسي على دوره العسكري كقائد جيش، ولا إسكندر غانم أو إبراهيم طنوس، “الجنرالين” اللذين دفعا ثمن خلافات سياسية جرّتهما إلى توريط المؤسسة العسكرية في وحول الحرب الاهلية. الثلاثة أُقيلوا من موقعهم، كلّ لسبب. لكنّ خيار ميشال عون “الحصري” لا يبدو معرضاً لمصير كهذا، وإن أتت الصفعات من أهل البيت أكثر من مقلب الأخصام.

خلافاً لكل من اعتقد أن الرئيس عون حَسَم متأخراً اسم مرشحه لقيادة الجيش، فإن “جنرال الرابية” ومنذ العام 2011، تاريخ تعيين اللواء عباس إبراهيم مديراً عاماً للأمن العام، رفض أن يكون جوزف عون من بين مجموعة الضباط الذين اختيروا للانتقال مع إبراهيم إلى الأمن العام، قائلاً بالحرف الواحد: “أريده أن يبقى في مكانه لأنّه مشروع قائد جيش”. أيّده مجلس الوزراء بالإجماع من دون تصويت. لم تكن تلك حالة جان قهوجي، قائد الجيش الأوّل بعد انكفاء الجيش السوري عن لبنان، الذي لم يتوافر له الإجماع بمعارضة وتحفّظ من وزراء وليد جنبلاط وسمير جعجع.

هنا تكثر الروايات. بالتأكيد جوزف عون ليس جان قهوجي. لا مكتب فتح في اليرزة لأحمد البعلبكي ولا ممثِّل شخصياً لعون داوم في مكتب وفيق صفا في الضاحية لتدوين طلباته

الضابط المغوار، ابن العيشية في الجنوب، بدا منذ تعيينه من طينة عسكرية تناسب المرحلة ومتطلّباتها خصوصاً لناحية كسر “أعراف” لم تعد مقبولة وولّدت نقمة لدى الأغلبية الساحقة من الضباط في المؤسسة العسكرية.

النفضة الداخلية ترافقت مع شعار لم يتنازل عنه: “يصل ويتقدّم من الضباط الى مواقع المسؤولية من تسمح كفاءته بذلك وليس من تزكّيه مرجعيته السياسية. وأنا هنا كي يتاح لهؤلاء الفرصة بأن يأخذوا حقهم”. مع ذلك، سلّم عون ببعض الخطوط الحمر. ثمّة مواقع حسّاسة بحكم التركيبة “الطوائفية” الراسخة يعود لزعماء “لويه جِركه” الحسم فيها.

بالمقياس نفسه، تحوّل “راكبو كلّ العهود” وأعضاء نادي “التبييض والطرش” إلى يتامى عجزوا عن نسج علاقات مباشرة مع القائد و”مكتبه” برغم ما يحملون من امتيازات وخدمات وعروض سفر وهدايا قيّمة وكلام معسول…

سياسة اليرزة، بالتنسيق مع “الجنرال” الأول الجالس في بعبدا، وضعت حدّاً فاصلاً مع ممارسات الأمس، ورفضت حتى ملاحقة ضباط “طلعت ريحتهم” في حقبة سابقة. ووجع الرأس الفعلي بدأ مع تأكيده بأن المحسوبين على الفريق السياسي الذي زكّاه في هذا الموقع ليس لهم في المؤسسة أكثر من أي فريق سياسي آخر.

عامان وتسعة أشهر منذ التعيين وضعت جوزف عون في أكثر من موقف صعب. بين ملفات الداخل والخارج كثر “التخوينيون” كما “أنصار القائد”، وفي وقت قياسي رُقّي الى رتبة “مشروع رئيس”. أما مواد الاشتعال فكثيرة. حضرت الحفاوة السعودية اللافتة بقائد الجيش. الزيارة إلى الرياض، “المملكة” التي تركت سعد الحريري لقدره والناقمة على التسوية الرئاسية، أتت بعد ثلات زيارات خلال فترة قياسية إلى الولايات المتحدة الأميركية. يكفي هذا الأمر لنسج سيناريوهات عن الدور المستقبلي المحتمل لقائد جيش تحدث الأميركيون عن شخصيته الملفتة، وأضف ممانعة باسيل لهذا الخيار بأيّ ثمن. ولن تكتمل الصورة إلا مع رسم المسافة الفاصلة بين اليرزة و”حزب الله”.

هنا تكثر الروايات. بالتأكيد جوزف عون ليس جان قهوجي. لا مكتب فتح في اليرزة لأحمد البعلبكي ولا ممثِّل شخصياً لعون داوم في مكتب وفيق صفا في الضاحية لتدوين طلباته. معركة فجر الجرود والحرب التي خاضها الجيش بوجه المجموعات الإرهابية وسط “لغم” النازحين ومخيماتهم أظهرت جانباً آخر أكثر حساسية في العلاقة الملتبسة نتيجته: احتفال للجيش بتحرير “الجرود” وآخر لـ “حزب الله”.

في المعركة الصعبة مع تجار المخدرات والحاكمين بأمرهم في البقاع وبعلبك دخل السيد حسن نصرالله شخصياً على الخطّ. دعا إلى استقالة من لا يستطيع تحمّل المسؤولية لكن مع خطّ أحمر: “عدم رفع الغطاء الشعبي عن الجيش لأن هذا ما يريده المجرمون”. وترسيم الحدود بين الطرفين لم يغب عنه يوماً التنسيق والتعاون حيث تدعو الحاجة.

في جولته التحذيرية على المسؤولين السياسيين وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة قام بما يفترض بوزير الدفاع آنذاك إلياس بو صعب، أن يقوم به

وبين المعركة التي خاضها عون دفاعاً عن حقوق عسكرييه ثم وقوفه في “بوز” مدفع المواجهة مع الشارع خلال “معركة” حفظ الأمن، لم يتردّد قائد الجيش في كسر المحظور. في الأولى بدا كمن يخوض كباشاً صعباً مع الفريق المحسوب عليه في دفاعه عن حقوق العسكر. كذلك في أيام الانتفاضة حين كان قرار القيادة العسكرية واضحاً: لا لسقوط الدم مهما كان الثمن السياسي.

لن يَحسد أي ضابط أو سياسي جوزف عون على هذا الموقف الصعب. أعصاب فولاذية تحمّلت ضغطاً هائلاً من الأقربين قبل الأبعدين، وتوازنات حسّاسة في الشارع كادت تُخرجه عن السيطرة.

في جولته التحذيرية على المسؤولين السياسيين وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قام بما يفترض بوزير الدفاع آنذاك إلياس بو صعب، أن يقوم به. الأخير كان مشغولاً دائماً، حتّى في زمن تصريف الأعمال و”الثورة”، بأجندة صنع “الصورة” بما في ذلك التقاط الصور أمام شاحنات الزفت في قرى المتن…  والتمريك حيث أمكن على قائد الجيش.

لكن همّ ابن المؤسسة في مكان آخر. بعكس إميل لحود وميشال سليمان وجان قهوجي، أراد البعض أن يدفّع جوزف عون باكراً جداً فاتورة “رئاسية” في التوقيت الخاطئ. أمام “الجنرال” ثلاث سنوات أخرى صعبة من عمر العهد، لن يكون فيها بمنأى عن حسابات رئاسة الجمهورية وربما أثمانها. واقع لا يدفع “جنرال اليرزة” سوى إلى التشدّد في بقاء الجيش بعيداً عن وحول السياسة وعدم زجّه في سياسة الزواريب، ومنع وضع اليد على قرار القيادة… وعند الاستحقاق الكبير لكل حادث حديث.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…