في الطائرة مع “المزعجة” مي شدياق قبل الكورونا!

مدة القراءة 4 د


ذات يوم، في زمن سابق، حينما كانت الطائرات المدنية تطير وتنقل الركاب، رفعت لنا المضيفة – الزميل غابي مراد وأنا – تذكرتينا إلى درجة رجال الأعمال بما أن الطائرة كانت شبه فارغة، وكان هناك أمكنة كثيرة، فجلسنا غير مصدّقيْن في المقاعد الفخمة، لتجلس بقربنا على الجانب الآخر الزميلة مي شدياق ومعها أختها. كانت وجهة الطائرة فرانكفورت.

كنا، غابي وأنا، متوجِّهيْن إلى الولايات المتحدة الأميركية، فيما مي شدياق كانت ذاهبة إلى ألمانيا. وكانت المرة الأولى التي التقي فيها بمي. يومذاك شعرت بارتباك الاحتكاك بالسيدة الإشكالية المستفزّة، التي في الآن عينه تحمل مخزوناً كبيراً من النضال، وقدرة هائلة على تحمّل الألم وتجاوز الموت، بكلّ ما يعنيه ذلك من تضحية.

إقرأ أيضاً: عندما تذوّقتُ “تفاح المجانين”: الريبوخة

كان مربكاً هذا اللقاء، خصوصاً أنّ مي بعد محاولة اغتيالها بدأت تصير أكثر تطرّفاً في تماسها مع السياسة ومواضيعها. وكنت على صعيد شخصي في مرحلة المراجعة الذاتية للخيارات السياسية التي جعلتني في خضمّ شبابي ألتهب بحماسة مراهقة لقوى 14 آذار، حتى صدّقت مع هذه القوى أوهام الشعارات الرنّانة حول السيادة والاستقلال، ليتبيّن أن غالبية المنادين بها من سياسيين ومرجعيات حزبية، محترفي دجل، وبائعي وهم وسمك في البحر.

ومي كانت، في خضمّ هذا الوهم، إحدى بائعاته، وإن كانت قد دفعت ثمناً غالياً لبضاعة رُدّت إليها وكسدت لديها. وحينما دفعت مي ذلك الثمن القاسي والباهظ، وجدتني وكنت حينها أكتب وأعمل في جريدة “المستقبل” أكتب مادة عن محاولة اغتيالها، أقارن فيها بين ما حدث مع مي، وبين ما حدث مع خالة أمي التي ماتت قبل محاولة الاغتيال بيوم واحد. وخالة أمي ماتت بلغم اسمه البلد. قتلها البلد الذي يهمل فقراءه حتى يحرمهم من أبسط الحقوق، ثم لا يتوانى عن حرمانهم صحتهم وصولاً إلى بتر أعضائهم، وانتهاءاً بقبض أرواحهم.

خالة أمي، وكنت اناديها خالتي، ماتت قبل يوم من محاولة اغتيال مي، بلغم الصقه النظام اللبناني اسفل حياتها الرثّة، وفجّره عن بعد، فتناثرت أشلاء وماتت ببطء.

مي أيضاً تعرّضت لما هو أبشع، بسبب رأيها وموقفها السياسي. لغم فعلي، وليس مجازياً، يحاول تشظيتها وقتلها، لكنها تعود من الموت وتستجمع نفسها، وبكامل الحياة التي فيها، تصرخ صرخة البقاء في وجه القاتل الذي فشل في قتلها.

وهي بجانبي في الطائرة، تذكّرت خالتي. تذكّرت المقاربة. ولا بدّ أنّها لم تقرأ المقالة فهي كانت حينها في العناية الفائقة. لم أُخبر مي بالمقالة. وهي حُذفت من ذاكرة الإنترنت مع أرشيف صحيفة “المستقبل”.

مي لا يزعجها ولا يعيبها التصويب القاسي، المشبّع بعضه بالذكورية واللاإنسانية الذي تتعرّض له عند كل بروز سياسي أو إعلامي لها

ووجدتني مع غابي نفتح حديثاً جانبياً لطيفاً مع مي طوال الرحلة إلى فرانكفورت. ومع تمسّكها بتطرّفها السياسي، أعربت مي عن امتنانها لصداقات تعتزّ بها مع زملاء إعلاميين في المقلب الآخر، هم متطرّفون مثلها لكن لأطراف مقابلة، ومستفزّون مثلها لها وللفريق الذي تدافع عنه. ومي، كما بدت لي في هذه الساعات القليلة من بيروت إلى فرانكفورت، قادرة على استيعاب الاختلاف الحادّ معها في الرأي، رغم عنادها وتمسّكها بآرائها السياسية المتطرّفة.

ومن هذه الساعات القليلة، أستطيع أن أُجازف وأفترض أنّ مي لا يزعجها ولا يعيبها التصويب القاسي، المشبّع بعضه بالذكورية واللاإنسانية الذي تتعرّض له عند كل بروز سياسي أو إعلامي لها، خصوصاً عندما تدلي بدلوها “الملوّث” بنسب متفواتة، تارة من العنصرية المبطّنة ببطانة قومية لبنانية، وطوراً من الطائفية الطافية على سطح الدلو.

هي قادرة على الاستيعاب. وقادرة على التحمّل. كانت قبل محاولة الاغتيال كذلك. وبقيت بعد محاولة الاغتيال كذلك. هي تعلم جيداً أنّ حضورها مزعج لكثيرين، وتعلم أنّ بعض المنزعجين قادرون على التفكير في محوها من الوجود للتخلّص من إزعاجها. وقد حاولوا ذلك بالفعل، وفشلوا. ومع ذلك لم تتوقف مي عن الإزعاج. وتعلم أن المنزعجين لن يتوقفوا عن إزعاجها. وتناضل لكي تمنع بعض المنزعجين من تسويغ التصفية الجسدية سبيلاً للتخلّص من الإزعاج، عبر إسكات الصوت المزعج بقتل صاحبته.

هي، وها أنا أُجازف في الافتراض مجدّداً، تقبل اللعبة على ما هي عليها، مع كلّ ما تختزنه في بعض جوانبها من قساوة تنطوي على ذكورية وتنمّر، ليس أكثره الشماتة البشعة بإصابتها بمرض كورونا. تستطيع مي أن تتحمّل كل ذلك في سبيل إثبات وجهة نظرها العنيدة، والتي تتفق فيها مع أبي الطيب المتنبي: “الرأي قبل شجاعة الشجعان”. ورأي مي، شجاع بلا شك، وشجاعته مردّها إلى تقبّله الخطأ والصواب.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…