فيلم “ست الدنيا”: بيروت التي لا نريد أن نتركها

مدة القراءة 5 د


تسبّبت كلمة “ستّ” بخلاف كبير بين النُّحاة حول أصلها، وما إذا كانت فصيحة أو عامية. لكنّ هذا الخلاف أنتج سياقات تربط معناها بفكرة تملّك المرأة للرجل والإحاطة به من الجهات الستّ، أي من فوقه وتحته، ويمينه وشماله، وأمامه وخلفه.

إقرأ أيضاً: بين رامبو وأرطغرل: السحر الطاغي للعضلات

وقد أعجب الشاعر بهاء الدين زهير بهذا المعنى وتبنّاه وكتب ساخراً من النُّحاة:

بروحي من أسميها بستّي

فتنظرني النُّحاة بعين مقتِ

ولكن غادة ملكت جهاتي

فلا لحن إذا ما قلت ستّي.

ننطلق من فكرة الإحاطة التامة لفهم ارتباط مفردة “ست” بـ”الدنيا” بـ”بيروت”، واعتمادها لوصفها. لا نعرف أصل هذه التسمية، ولا متى بدأت أو استعملت للمرة الأولى. لكنّها عرفت انتشاراً وشيوعاً باتت معه بمثابة الصفة الأصلية التي لا ينازع أحد بيروت على ملكيتها، خصوصاً بعد أن كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة ومنحها هذا العنوان، وغنّتها لاحقاً السيدة ماجدة الرومي.

بيروت التي يتوجّه الحديث إليها لم تظهر غارقة في ماضيها، بل بدت وكأنها تستعيد اللحظات الحميمة والجميلة منه، وتحاول أن تفلشها على مساحة الحاضر

اختار المخرج إيلي الفهد لفيلمه القصير (3 دقائق فقط) اسم “ست الدنيا” كمدخل لمخاطبة مدينة بيروت بصفاتها الأصلية، وشكّل مع مع الممثّلة كارمن بصيبص ثنائياً، نجح في وصل أجزاء الخطاب مع بعضها البعض.

الفيلم / الفيديو هو عبارة عن حوار بين امرأة ورجل، لا ذكر فيه لاسم بيروت، لكنّه يتحدّث عنها، ويوحي العنوان بها.

يقول الفهد في حديث موجز أجري معه إثر الضجّة التي أثارها فيلمه، إنه كان يشاهد في البيوت البيروتية القديمة عبارة “ست الدنيا” محفورة على الخشب ومعلّقة في قلب الصالونات، ما يعني أنّها كانت بمثابة توكيد على الانتماء إلى بيروت الذي كان يتمثّل في الوعي العام بفكرة ترتبط بالانتماء إلى العالم والإحاطة به.

بيروت التي تعرض في هذا الفيلم، ليست صالحة للرثاء بل للحبّ. إنّها تحيط بنا من كلّ الجهات، فلا نستطيع الفرار من حبها، ولا من الإدمان على مراقبة تفاصيلها من داخلها.

يخاطب الفيلم بيروت من خلال التسجيل على جهاز الكاسيت، وهي الصيغة التي كان المهاجرون يعتمدونها في السبعينات قبل اندلاع الحرب للتواصل مع أهلهم، وكذلك كانت يُعتمد عليها خلالها.

بيروت التي يتوجّه الحديث إليها لم تظهر غارقة في ماضيها، بل بدت وكأنها تستعيد اللحظات الحميمة والجميلة منه، وتحاول أن تفلشها على مساحة الحاضر.

تسأل الممثلة كارمن بصييبص بيروت: “شو كيفك؟ بعد في حدا عميطمن عليك؟”، وهو سؤال استنكاري احتجاجي. الفيلم لا يعرض التخاطب مع بيروت بوصفه فعلاً يحدث خارجها، بل يؤكد على أنّه يجري فيها، وأنّها ميدانه ومجاله. من هنا، يبدو الحديث وكأنّه مونولوج تنتقل فيه المدينة لتسكن في الذات ولا تغادرها، وكأنّ أمكنتها وشوارعها، هي حكاياتنا وسيَرنا التي تمتدّ وتتواصل وتتناسل من بعضها البعض.

هكذا تتحوّل الأسئلة المتّصلة إلى نوع من العتاب الداخلي: “كام حدا بدو يضب الشنطة ويفل؟” تقول بصييبص ليتابع إيلي قائلاً: “وهوي وفالل يطلع عبنياتك لآخر مرّة”.

يبدو هذا الكلام، وكأنه يحدث في لحظة اتخاذ قرار مغادرة المدينة، لكنّ حركة الفيلم تسير في إطار مغاير لتظهر وكأنها ترثي الذين غادروا، وكأنهم قد فقدوا الدنيا بينما يتمّ الكلام في لحظة الإقامة “إذا عبالك تخبرينا شي نحنا هون”. هذه الـ”نحنا هون” تستكمل بالتأكيد على “ما تفكري حالك لوحدك صدقيني نحنا فكرنا حالنا لوحدنا كتير إيام”.

“نحتاج إلى الوقت، بل لا نحتاج سوى إلى الوقت”، يقول الفيلم معبّراً في ختامه عن نظرته إلى المدينة القادرة على البقاء من دوننا

نخبر أنفسنا عن علاقتنا ببيروت، ونتحدّث معها فنخرج من الوحدة ونخرجها منها. فما الذي تريده بيروت غير أن نلتقي بها ونحياها ونعترف بحزنها ونعانق تفاصيلها في سيرورتها، وليس بوصفها تاريخاً، بل بوصفها الحاضر الممتدّ والمتواصل والحيّ.

لا يكفي أن نتذكّر أمجادها وسينما ريفولي وساحة البرج، وأن ننسج علاقتنا بها من مادة الحنين والأغاني والنظرات المنكسرة من شبابيك الطائرات، بل ما يجب الدفاع عنه، هو المشاركة في نموّها ومعاينتها بلا مسافة على الإطلاق، بل عبر الإقامة فيها وتملّي تفاصيلها والتفرّج عليها، وهي تحتلّ مساحة تملأ الدنيا وتفيض عنها.

يعرض الفيلم عبر التوالي البصري لحشد من المشاهد البيروتية وعبر أداء محترف لكلٍّ من بصيبص وفهد، شبكةً من التفاصيل المألوفة، التي تمرّ سريعاً أمام أعيننا كلّ يوم من دون أن تسترعي انتباهنا، ليقول إن ما نعتقده عابراً وهشّاً، إنما ينطوي على قدر كبير من الصلابة والتماسك والقوة، وليس علينا سوى أن نحضنه ونتفاهم معه وندافع عنه لكي نحيا وكي نكون في الدنيا التي أعلنت بيروت ستّها.

“نحتاج إلى الوقت، بل لا نحتاج سوى إلى الوقت”، يقول الفيلم معبّراً في ختامه عن نظرته إلى المدينة القادرة على البقاء من دوننا. لكنّنا نحن من لا نستطيع البقاء من دونها، ومن دون دنياها التي تفرش ظلالها على كلّ الدنيا لتنقذنا من السقوط في هاوية المنافي وفقدان الصلة بالوجود والمعاني والألفة. المهمّة التي لا تتوقف بيروت عن ممارستها بغضّ النظر عن كلّ ما يعتريها من ألم، هي مهمّة إنقاذنا من الموت. 

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…