ثمّة مسار طويل قاد الى جلسة ستكون استثنائية في تاريخ القضاء والسياسة والمحكمة العسكرية في الرابع عشر من الشهر الحالي.
ما اصطُلح على تسميته بـ”فضيحة المدرسة الحربية” العالقة في القضاء منذ 2017 تختتم في مراحلها الأخيرة أمام المحكمة العسكرية بطلب المدّعي العام العسكري القاضي هاني حلمي الحجار استدعاء سبعة ضباط كشهودٍ في الملفّ واستجابة المحكمة لذلك، وهم: قائد الجيش السابق جان قهوجي، المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، مدير مكتب قهوجي العميد محمد الحسيني، مدير المخابرات السابق كميل ضاهر، قائد الحرس الجمهوري السابق وديع الغفري، رئيس اللجنة الفاحصة في الكلية الحربية السابق فادي أبو فرّاج، ورئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير.
دوافع عدّة قادت قاضي التحقيق العسكري إلى طلب الاستماع إلى هؤلاء الضباط الكبار. فقد حرِص الحجار في جلسة 8 أيلول أن يؤكّد على أنّه لا يوجّه “اتّهامات لأحد، وطلب الاستماع إليهم هو لمزيد من الشفافية”.
تسأل مصادر مطّلعة على الملفّ: “هل من المعقول التسليم بوجود فضيحة في المدرسة الحربية بينما الملاحق فيها سبعة مدنيين فقط، بينهم الرائد المتقاعد في الأمن العام أحمد الجمل الملاحق بصفته المدنية لا العسكرية؟”.
دوافع عدّة قادت قاضي التحقيق العسكري إلى طلب الاستماع إلى هؤلاء الضباط الكبار. فقد حرِص الحجار في جلسة 8 أيلول أن يؤكّد على أنّه لا يوجّه “اتّهامات لأحد، وطلب الاستماع إليهم هو لمزيد من الشفافية”
تضيف المصادر: “الإستدعاء هو لمعرفة هل حصل تلاعب فعلي بالنتائج، أو أنّ الجمل وبقية المتّهمين استغلّوا هذه الدورة للقيام بعمليات احتيالٍ عبر الإيحاء بأنّهم مؤثّرون في النتائج وقبضوا الأموال على هذا الأساس؟”.
هذه النقطة بالتحديد تحصر الشبهات بعدد من الضباط المرتبطين بالمؤسّسة العسكرية دون غيرهم من الضباط المُستدعين. مع ذلك وافق رئيس المحكمة العسكرية العميد منير شحادة على لائحة الأسماء كاملة.
وتؤكّد المصادر: “هذه الفضيحة لم يُحقّق فيها مع أيّ ضابط بأّي رتبة سواء في الكلية الحربية أو أمام اللجنة الفاحصة، فيما عملت جهات سياسية بالتواطؤ مع بعض القضاة على تضخيم عنوان الملف وإبقاء مضمونه فارغاً لاستهداف قضاة آخرين. وحتّى وزير الدفاع السابق الياس بو صعب لم يطلب حين أثار الملفّ في الإعلام إجراء تحقيق مسلكيّ، بينما هذا الطلب كان من صلاحيته”.
وحتّى الآن لم يتمّ تبليغ أي من الضباط بحضور الجلسة في ظل امتعاض بكركي من تشكيل سابقة في سياق استدعاء قائد الجيش السابق ومديرَيّ مخابرات. ووفق أحكام القانون، من يبلّغ قانوناً ملزم بالحضور، إلا في حال العذر المشروع الذي تقدّره المحكمة. وفي حال التخلّف يتمّ تبليغه مجدداً أو تغريمه!
يستقطب اسم أحمد الجمل الكثير من التساؤلات والتأويلات. وقربه من تيار المستقبل أوحى لكثيرين بأنّ القاضيين هاني الحجار وألاء الخطيب، الذي أصدر القرار الظني، تصرّفا من وحي هذا المعطى. لكنّ مسار القضية أثبت العكس، فإضافة الى طلب الحجار بشكل متكرّر التوسّع في التحقيق، رفض الخطيب طلب رفع الحجز عن أموال الجمل كون موضوع تبييض الاموال منفصل عن موضوع الملاحقة أمام القضاء العسكري، وصلاحية البتّ به تعود إلى النيابة العامة التمييزية، ولأن ملف تبييض الأموال موجود في عهدتها منذ 2017.
ورفع السرّية المصرفية عن أموال الجمل كشف وجود 19 مليون دولار في حسابه (دخول وخروج) بين 2010 و2017، فيما المبلغ الملاحق فيه بقضية المدرسة الحربية هو 110 آلاف دولار.
هذه الفضيحة لم يُحقّق فيها مع أيّ ضابط بأّي رتبة سواء في الكلية الحربية أو أمام اللجنة الفاحصة، فيما عملت جهات سياسية بالتواطؤ مع بعض القضاة على تضخيم عنوان الملف وإبقاء مضمونه فارغاً لاستهداف قضاة آخرين
وهنا تبرز نقطة هامة جداً وهي قيام القاضي جرمانوس في 22 تشرين الثاني 2017 يوم عيد الاستقلال بفتح ملفّ منفصل للحسابات المصرفية لأحمد الجمل وربيع شعيب وإحالته إلى مديرية المخابرات من أجل التحقيق فيه بإشراف جرمانوس نفسه. فيما كانت محكمة التمييز الجزائية قد فسخت في اليوم السابق قرار القاضي أبو غيدا بعد قبولها الطعن المقدّم من القاضي الحجار. والأخير كان يرمي إلى التوسّع في التحقيق عملاً بمطالعته الفرعية التي طلب خلالها بعض المعطيات من قيادة الجيش بشأن إعادة تصحيح المسابقات وبيان ما إذا كانت قد جرت أيّ تحقيقات مسلكية بخصوص ملفّ المدرسة الحربية.
وقد طلبت مصادر قضائية التحقيق في قرار جرمانوس إبقاء الحسابات المالية من دون تحقيق منذ 22 تشرين الثاني 2017 حتّى آذار 2018.
كما تبيّن أن الرائد المتقاعد الجمل تمّ التعاقد معه بطلب خطّي من وزير الداخلية الأسبق مروان شربل، من دون أن يكشف من طلب منه ذلك. لكنّ النائب جميل السيد كشف أمس في تصريح تلفزيوني بأن “الطالب” هو الرئيس سعد الحريري!
ونفى وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق بأن يكون الجمل قد عمل معه بأيّ صفة من الصفات خلال توليّه وزارة الداخلية بين العامين 2014 و2019، مؤكّداً أنّه حين تسلّم الوزارة، كان الجمل يعمل منذ العام 2013 بصفته مندوباً للأمن العام، والمعنيّ بنقل البريد بين الوزارة والمديرية العامة للأمن العام، وبأنّ “الوزير مروان شربل هو الذي وقّع على طلب التعاقد مع الجمل خطّياً”.
وكانت التحقيقات في الملفّ بدأت في المحكمة العسكرية في شهر أيلول 2017 بإشراف القاضي صقر صقر، وتابعها القاضي الحجار بعدما ختم قاضي التحقيق الأوّل التحقيق رياض أبو غيدا الملف وأحاله إلى المطالعة بالأساس.
وأول إجراء طلبه الحجار هو التوسّع بالتحقيق في مطالعة فرعية. لكن لم يتمّ الإستجابة لطلب التوسّع في 31 تشرين الأوّل 2017، ثم بعث كتاب تأكيد على ضرورة التوسّع بالتحقيق إلى قيادة الجيش، لكن من دون جواب. وكرّر هذا الأمر في الجلسات التي كان يحضرها، الى أن طلب استدعاء الضباط المعنيين بصفة شهود وليس مُتهمين في جلسة 28 أيلول الفائت.
نفى وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق بأن يكون الجمل قد عمل معه بأيّ صفة من الصفات خلال توليّه وزارة الداخلية بين العامين 2014 و2019، مؤكّداً أنّه حين تسلّم الوزارة، كان الجمل يعمل منذ العام 2013 بصفته مندوباً للأمن العام، والمعنيّ بنقل البريد بين الوزارة والمديرية العامة للأمن العام
والملفّ الذي بقي خارج التداول الاعلامي فترة طويلة تداخل مع ملفّ الفساد القضائي الذي فتحِ على مصراعيه في شباط 2019. فتقدّمت الأجندات السياسية على ما عداها. ووضعت جهاتٌ سياسية قريبة من العهد “شعبة المعلومات” والقاضي الحجار في دائرة الاستهداف، لأنّ الحجار كان هو من أعطى أوّل إشارة للتوقيفات في ملفّ الفساد القضائي.
وبرز إلى الواجهة خلاف بين الحجار ومفوض الحكومة جرمانوس، تخلّله طلب التفتيش القضائي كفّ يد الأخير عن العمل. فأعاد وزير الدفاع السابق بو صعب تحريك ملفّ المدرسة الحربية بعدما وَردته إحالة من جرمانوس.
إقرأ أيضاً: كيف حذفت أسماء رؤساء الحكومات من رسالة القاضي صوان إلى مجلس النواب؟
بدا الأمر، وفق مطلعين، بمثابة تصويب على القاضيين الحجار وألاء الخطيب لتشتتيت الانتباه عن إحالة جرمانوس إلى المجلس التأديبي. ووصل الأمر الى حدّ تسريب “خبرية” عن إحالة القاضيين الخطيب والحجار إلى التفتيش القضائي، في مقابل نفي وزير العدل السابق ألبير سرحان هذا الخبر.
وهنا برزت ملامح فضيحة أخرى أساءت إلى صورة الرئيس ميشال عون شخصياً. فآنذاك صدر بيان عن المكتب الاعلامي لرئاسة الجمهورية تحت وطأة مناخات 17 تشرين فنّد الملفات التي يتابعها رئيس الجمهورية، المرتبطة بالفساد. وتمّ دسّ بند ألمح الى إحالة القاضي الحجار الى التفتيش القضائي بناءً لشكوى بو صعب، على الرغم من نفي وزير العدل الخبر. لكن سرعان ما صحّح المكتب الاعلامي اللائحة وغيّر مضمون البند، وحطّ الحجار في اليوم التالي في قصر بعبدا والتقى رئيس الجمهورية في جلسة وصفت بـ”الودّية”.
غداً: ما سرّ التزامن والترابط بين فضيحة المدرسة الحربية والادّعاء على ثمانية ضباط كبار بتهمة الإثراء غير المشروع؟