“شرسةٌ” هي دبلوماسية القوّة للسيطرة على النفوذ النفطي. فمن جهة، هناك علاقة تركية قطرية آخذة بالترسّخ. وفي المقابل هناك الاتحاد الأوروبي الباحث عن شتّى الخيارات التي تحرّره من الهيمنة الروسية لتصدير الغاز الطبيعي.
من هذا المنطلق، لا يمكن ربط سلسلة زيارات رئيس الجمهورية الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا بملفّ النفط الشرق-أوسطي خصوصاً بعدما شكّلت بيروت في الحضور الأخير”محطة” قبل التوجّه الى العراق. فالإليزيه يسعى بكلّ إمكانياته إلى تطويق تركيا المتوغّلة حديثاً في عمق الثروات الغازية القبرصية-اليونانية.
إقرأ أيضاً: بانتظار الحفارة.. لبنان ليس بلداً نفطياً
من وجهة نظر ماكرون، فإن الحوض الشرقي للبحر المتوسط (نقطة التقاء آسيا وأوروبا وأفريقيا، الذي يحوي 41% من احتياطي الغاز في العالم) بحاجة إلى “جوكر” يدير صراعات دوله الـ6 (تركيا، قبرص، لبنان، مصر، سوريا، وإسرائيل). لذا نراه في البداية يدعم أثينا ونيقوسيا لمواجهة أنقرة في قضية ترسيم حدود المناطق البحرية المتنازع عليها، ثمّ يأتي لتزعّم بيروت مُتواصياً على مرفئها، وهو نقطة ارتكاز خطة فرنسا الخارجية.
هذا الأمر يُبرّر عمليّاً تأخّر شركة “TOTAL” لإرسال تقريرها النهائي حول تحاليل البلوك رقم 4، رغم أنّ بعض المصادر تنفي هذه الاحتمالية معتبرة أنّ التقرير تأخر بسبب انتشار الفيروس التاجي، وصعوبة نقل المواد المستخرجة لإجراء التحاليل النهائية في إيطاليا وفرنسا.
يطرح الإعلان الإيطالي الرسمي العديد من علامات الاستفهام التي تبدأ بإمكانية أن تكون إيطاليا قد انضمّت إلى الحلف التركي – القطري مع ما يشكّله ذلك من مجابهة لفرنسا
يبدو الرئيس الشاب مصرّاً على تحسين حصة الشركة الفرنسية، ومن خلالها تغيير المعادلة النفطية والاستحواذ على دور أكبر في الخريطة اللبنانية – الإقليمية النفطية.
النيّة الفرنسيّة غير المعلنة، تجزمها التصريحات الإيطالية. إذ اعتبرت نائبة وزير الخارجية إيمانويلا ديل ري أنّه “لدى إيطاليا معطيات علمية دقيقة تؤكد وجود مكامن غازية في البلوك رقم 4″، مشدّدة على أنّ بلادها عبر “ENI” (الشركة الإيطالية) مستعدة للحفر مجدّداً حتى لو لم ترغب “TOTAL” بإعادة الكرّة”.
يطرح الإعلان الإيطالي الرسمي العديد من علامات الاستفهام التي تبدأ بإمكانية أن تكون إيطاليا قد انضمّت إلى الحلف التركي – القطري مع ما يشكّله ذلك من مجابهة لفرنسا. وهو ما يمكن أن يفسّر الرغبة الإيطالية بقيادة العمليات الاستكشافية في المياه الإقليمية اللبنانية، ولا تنتهي مع المخاوف الأوروبية المتزايدة جرّاء تأدية فرنسا دورَ الوسيط بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية إيران الإسلامية، في وقتٍ تسعى برلين الى التقرّب من أنقرة، وهذا ما يشير إليه الموقف الإيطالي المؤيد لحكومة الوفاق في ليبيا بخلاف فرنسا التي تقف إلى جانب حفتر.
وما يزيد من الشكوك هو تمييع دورة التراخيص الثانية لعرض البلوكات 1و2 و5 و8 و10 وإرجائها الى أجَل غير مسمّى. تمّ ذلك بالتزامن مع عدم تحديد مصير المسار الاستكشافي للنفط في البلوك 9 من قبل ائتلاف الشركات “TOTAL” و”ENI” و” NOVATEC”، علماً أنّ العقد يلزم الشركات بالبدء بحفر بئر قبل أيار 2021. بالإضافة الى إعطاء الضوء الأخضر لـ “Schlumberger” لتحليل البيانات الجيولوجية ووصل داتا البرّ بالبحر، لكن قبل صدور تقرير “توتال” النهائي، ومن دون تحويل المبلغ المستحقّ الذي يلامس 650 ألف دولار، ما يعني أن ننتظر مزيداً من التحاليل لكسب الوقت والترقّب إلى حين نضوج المشهد السياسي العام.
يبدو أنّ فرنسا لن تعود في المدى القريب إلى المياه اللبنانية، كما أنها لن تتحرّر بسهولة من المعضلات الجيو – سياسية، التي ستنهكها وتمتصّ قواها
في الحقيقة، لا يمكن فصل كلّ المستجدات عن ملف ترسيم الحدود اللبنانية، وتحديداً المنطقة الاقتصادية الخالصة بين لبنان واسرائيل، وهو ما سيحدّد وجه المنطقة الجديد ومعها المساعدات المالية الدولية المرتقبة للبنان. في هذا الإطار، يسود احتمالين: فإما أن تكون فرنسا قد هُدّدت فلَملَمت أغراضها وخرجت من البلوك رقم 4، وحصّنت صفحات تقرير “TOTAL” الذي ينتظر في أدراج الإليزيه. وبهذه الحالة، لن تكون النتائج الرسمية مغايرة للاستنتاج الحالي، ما يستوجب حفر بئر آخر لقطع الشك باليقين وحسم وجود مكامن غازية تجارية من عدمه. الاحتمال الثاني أنّ فرنسا قد أبرمت اتفاقاً مع الولايات المتحدة إلى حين البتّ بالبلوك 9، بعد التأكد من تداخل المكامن النفطية اللبنانية مع تلك التابعة لإسرائيل. وهكذا يكون للفرنسيين إدارة غنائم هذه الحقول وتوزيعها، كما هي الحال في الكثير من الدول المتنازعة. إذ تدير الشركات العالمية تقسيم الموارد.
لكن وفي جميع الأحوال، يبدو أنّ فرنسا لن تعود في المدى القريب إلى المياه اللبنانية، كما أنها لن تتحرّر بسهولة من المعضلات الجيو – سياسية، التي ستنهكها وتمتصّ قواها، لا سيما أنّ الوجود الروسي المستقرّ عبر شركة “روسنفت” في الشمال اللبناني براً وبحراً، والممتدّ إلى سوريا، لا يسهّل عليها كلّ المهمات. إلا أنّه في حال نجحت بخرق الانغلاق السوري، فهي ستضمن مكاسب نفطية ضخمة من شأنها أن تضع حدّاً للنفوذ الروسي المستفحل في المنطقة. وهكذا تكون إدارة ماكرون قد ضربت 5 أهداف إقليمية…بحجر بيروتيّ واحد.