فرنسا تنسحب من النيجر: صفعة واشنطن!

مدة القراءة 5 د


تبدو فرنسا وكأنّها تغادر تاريخها الإفريقي. قد لا يظهر الأمر بهذه الحدّة، لكن يسهل على عين المراقب أن يرصد خييةً لباريس في القارّة السمراء تعود إلى عقود وتكثّفت خلال السنوات الأخيرة وباتت موجعة خلال الأشهر الأخيرة. فقدت فرنسا نفوذها في بوركينا فاسو ومالي من خلال انقلابات عسكرية طاردة، وسدّد انقلاب النيجر في 26 تموز الماضي ضربة قاضية إلى العصر الفرنسي في إفريقيا.

تقف أسباب كثيرة وراء هذا المصير الفرنسي المتهالك. العالم تغيّر. إفريقيا تغيّرت، فيما فرنسا تقارب العالم وخصوصاً إفريقيا من منظار متقادم يضع قواعد ومعايير بالية تعود لقرون كان الاستعمار فيها تقليعة ومن عاديّات علاقة الأمم الكبرى بالأمم الضعيفة. صحيح أنّ باريس، في عهود اليسار منذ فرانسوا ميتران وعهود اليمين منذ شارل ديغول، تعاقبت على تحديث “سياسة فرنسا الإفريقية”، لكنّ الورشة بقيت فرنسية المادّة والحيثيّات والدوافع لا تأخذ بالاعتبارات متغيّرات العالم وإفريقيا نفسها.

ترى أوساط داخل مراكز الإنتلجنسيا الأميركية أنّ فرنسا أخفقت في الحفاظ على نفوذها وإدارة علاقاتها مع الدول الإفريقية الفرنكوفونية

صفعة أميركا: سفيرة لدى الانقلابيّين

حتى لا نشرد كثيراً عن المسار الحقيقي للحدث، فإنّ قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأحد الماضي “الخضوع” لإرادة الانقلابيين في النيجر سحب السفير الفرنسي “فوراً” وكامل القوات الفرنسية (1,500 جندي) خلال الأشهر المقبلة، خضع لقراءة فرنسية للمشهد الدولي. بدت باريس معزولة في موقفها من حدث النيجر، وخصوصاً من قبل الحلفاء الغربيين، وإن اتّخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً تجميلياً متضامناً مدافعاً عن سفير باريس في نيامي. لكنّ الصفعة أتت قويّة من الولايات المتحدة.

عجّلت واشنطن على نحو لافت، وبعد أيام على وقوع انقلاب النيجر، بإرسال المسؤولة رقم 3 في وزارة الخارجية الأميركية إلى نيامي. توجّهت فيكتوريا نولاند، التي لطالما كُلّفت بالملفّات الثقيلة للسياسة الخارجية الأميركية، إلى قادة الانقلاب وتفاوضت معهم، فيما كانت فرنسا تعتبر الإطاحة بالرئيس النيجري المنتخب محمد بازوم عملاً غير شرعي وتلوّح ودول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) بالتدخّل العسكري للقضاء على الانقلاب وإعادة الرئيس الشرعي إلى موقعه.

ذهبت واشنطن أبعد من ذلك في استفزاز باريس وانتهاج سياسة مضادّة لمصالح فرنسا في النيجر. فحين كانت سلطات الانقلاب في نيامي تطالب في آخر آب الماضي فرنسا بسحب سفيرها في نيامي وتتدافع التظاهرات الشعبية حول السفارة، قرّرت واشنطن، في عزّ هذا المشهد وربّما بسببه، تعيين سفيرة لها في النيجر لدى سلطات الانقلاب. لم يرقَ تعارض السياسات بين باريس وواشنطن إلى حدّ الردح العلني، لكن وراء الكواليس كانت الرسائل المتبادلة تميل إلى لهجة قاسية جارحة اعتبرت من خلالها فرنسا أنّ حليفها الكبير يسعى إلى وراثتها داخل القارّة السمراء.

أميركا خائفة من الصين

ليست واشنطن ببعيدة عن اتّهامات باريس. لكنّ في إدارة الرئيس جو بايدن نقاشاً بشأن مصير إفريقيا داخل المشهد الدولي الكبير. لا تريد الولايات المتحدة سقوط الدول الإفريقية واحدة تلو أخرى داخل نفوذ الصين المتمدّد منذ عقود في المنطقة. ولا تريد أيضاً توسّع نفوذ روسيا في إفريقيا من خلال رعاية شركة “فاغنر” الأمنية لسلسلة انقلابات في الساحل الإفريقي جرت على قاعدة عداء عقائدي وشعبي لـ”الاستعمار الفرنسي” القديم-الجديد.

تبدو فرنسا وكأنّها تغادر تاريخها الإفريقي. قد لا يظهر الأمر بهذه الحدّة، لكن يسهل على عين المراقب أن يرصد خييةً لباريس في القارّة السمراء تعود إلى عقود

ترى أوساط داخل مراكز الإنتلجنسيا الأميركية أنّ فرنسا أخفقت في الحفاظ على نفوذها وإدارة علاقاتها مع الدول الإفريقية الفرنكوفونية. ترى أيضاً أنّ هذا الإخفاق لا يعبّر عن فشل فرنسي فقط، بل أصبح سبباً لإحداث فراغات جيوستراتيجية تبرّر التسرّب الروسي والصيني إلى إفريقيا. وتؤكّد هذه الأوساط أن لا خطط لدى واشنطن لكي يحلّ نفوذها وقواتها محلّ نفوذ فرنسا الدبلوماسي والسياسي والعسكري، لكنّها بالمقابل، ووفق استراتيجية تشمل الحلفاء الغربيين، لن تسمح بهذا السقوط السهل لإفريقيا داخل حدائق نفوذ مضادّة تشكّل تهديداً للتوازن الدولي ومصالح واشنطن وحلف شمال الأطلسي في العالم.

لن تعترف باريس. لكنّ فرنسا أذعنت لمزاج غربي تقوده الولايات المتحدة لمقاربة إفريقيا بشكل آخر لا يسمح لفرنسا بالذهاب بعيداً في سياساتها التقليدية التي باتت خارج سياقات المرحلة. الأمر ليس جديداً. اتّخذت فرنسا في كانون الثاني 2013 قراراً في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند بإطلاق عملية “سيرفال” لوقف زحف المجموعات الجهادية في شمال مالي. وحلّت مكانها عملية “برخان” في عام 2014. كان تنظيم القاعدة يهدّد باماكو، وكانت تحرّكات “أزواد” الانفصالية تهدّد النظام هناك. أرادت فرنسا أن تنفرد في جهد عسكري يحفظ مصالحها، لكنّها وجدت نفسها وحيدة لا تقوى على دفع أثمان وجودها العسكري هناك. كابرت طويلاً قبل أن يعلن ماكرون في 9 تشرين الثاني الماضي انتهاء عملية “برخان” وانسحاب القوات الفرنسية.

إقرأ أيضاً: رئاسة الجمهورية بين البابا وماكرون في مرسيليا..

انتقل قسم كبير من هذه القوات إلى النيجر التي يعلن ماكرون إنهاء التعاون العسكري مع سلطاتها الجديدة وانسحاب كلّ جنود فرنسا قبل نهاية العام. احتفل الانقلابيون في نيامي واعتبروا الأمر نصراً لسيادة النيجر. لم يبقَ لفرنسا إلا ألف جندي في تشاد. وحين كشف ماكرون عن قرار الانسحاب من النيجر بما يشي بالخيبة الفرنسية في إفريقيا، كان لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي يبدأ جولة إفريقية. في باريس من لن ينسى أنّ قراراً أميركياً صدر في واشنطن أسهم في “طرد” فرنسا من النيجر وربّما الفضاء الإفريقي الأوسع.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…