“الفلاحون غاضبون”. كلمتان أطلقتا انتفاضة الفلاحين في فرنسا. منذ أيام خرج المزارعون من حقولهم. اجتاحت آليّاتهم الزراعية وجرّاراتهم الطرقات. يوم الإثنين الماضي طوّقوا العاصمة باريس. أغلقوا الطرق السريعة المؤدّية إليها. وطوّقوا مدناً كبرى أخرى مثل مرسيليا وليون. رفعوا شعارات تعبّر عن مطالبهم وأخرى تظهر أهميّة القطاع الزراعيّ. “نهاية المزارع بداية الجوع”، كتب أحدهم على آليّته الزراعية. الأزمة كبيرة. وجدّية. وهو ما استدعى تحرّكاً سريعاً لرئيس الحكومة الجديد غبريال أتال. هذا الأخير كان يستعدّ للإعلان عن استراتيجية حكومته واستكمال تعيين الوزراء. فإذا به يتنقّل بين الحقول. وينتقل من مزرعة إلى أخرى. يفاوض المزارعين. علّه يفتح الطريق لانطلاقة حكومته.
الزراعة الفرنسيّة في أرقام
قبل الكلام عن “انتفاضة الفلاحين”، لنلقِ نظرة على موقع فرنسا العالميّ وأهميّة القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطنيّ.
منذ سنوات تراجع ترتيب فرنسا كبلد مصدّر للمنتجات الزراعية واللحوم من المركز الثاني (بعد الولايات المتحدة الأميركيّة) إلى المركز السادس عالمياً (بعد الولايات المتحدة الأميركيّة والصين والبرازيل وألمانيا وهولندا). كما تراجعت أهمية القطاع الزراعي في الدخل القومي للبلاد من حوالي 11% (1960) إلى 4.5% (2022). وتراجعت اليد العاملة في القطاع من 5 ملايين عامل (1960) إلى 824 ألف عامل في القطاع. كما ازداد عدد المؤسّسات الزراعية الكبيرة لتشكّل 67% من نشاط القطاع (2016)، بعدما كانت تشكّل 33% منه (2010). وهو ما خلق صعوبات لصغار المزارعين على مستوى المنافسة في الأسعار وجودة الإنتاج والقدرة على التسويق.
الأزمة كبيرة. وجدّية. وهو ما استدعى تحرّكاً سريعاً لرئيس الحكومة الجديد غبريال أتال. هذا الأخير كان يستعدّ للإعلان عن استراتيجية حكومته واستكمال تعيين الوزراء. فإذا به يتنقّل بين الحقول. وينتقل من مزرعة إلى أخرى. يفاوض المزارعين. علّه يفتح الطريق لانطلاقة حكومته
القطاع الزراعيّ الفرنسيّ، مثل باقي القطاعات الاقتصاديّة، مرتبط مباشرة بـ”السياسات الزراعية المشتركة” للاتحاد الأوروبيّ (منذ 1962). فهو استفاد كثيراً من تلك السياسات على مستوى مَكنَنة القطاع وزيادة المساحات الزراعية وإدخال استعمال الأسمدة… وهو ما أدّى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعيّ. كما يستفيد من مساعدات أوروبيّة سنوية بلغت قيمتها 9 مليارات يورو (2022). بيد أنّه منذ سنوات بدأ المزارعون يشكون من سياسات “بروكسل” ومن إهمال الدولة. فتحرّكوا.
أسباب تحرّك المزارعين
يمكن اختصار أسباب تحرّك المزارعين بالتالي:
1- التضخّم في الأسعار، وخاصّة في أسعار المحروقات.
2- عدم تطبيق قوانين “إيغاليم” (EGalim هي قوانين ثلاثة أُقرّت في 2018 و2021 و2023) التي تفرض على الموزّعين والصناعيين (في الصناعات الغذائية) أن يتحمّلوا أعباء زيادة كلفة الإنتاج الزراعي مع المزارعين.
3- زيادة الواردات من المنتجات الزراعية (20% من الاستهلاك المحليّ) من دول في الاتحاد الأوروبي تخلق منافسة غير متكافئة مع المنتجات الفرنسيّة.
4- اقتراب الاتحاد الأوروبي من توقيع اتّفاق مع تجمّع دول “مركوسور” (الذي يضمّ البرازيل والأرجنتين والباراغواي والأوروغواي). ومن شأن هذا الاتّفاق زيادة المنافسة غير المتكافئة مع المزارعين الفرنسيين، خاصّة أنّ البرازيل والأرجنتين هما بلدان كبيران في الإنتاج الزراعي وإنتاج اللحوم، وكلفة اليد العاملة فيهما أقلّ بكثير من اليد العاملة الفرنسيّة.
5- ارتفاع كلفة التدابير المفروضة أوروبياً وفرنسياً للحفاظ على البيئة، وأبرزها كلفة التحوّل نحو الطاقات البديلة.
6- العديد من المزارعين يرزح تحت وطأة الديون، وهو ما يدفع العديد منهم إلى الانتحار (ينتحر مزارع كلّ يوم في فرنسا، بحسب صحيفة “لوفيغارو” يوم الثلاثاء). وبحسب تقرير أصدرته شركة “الضمان الاجتماعي للمزارعين – Mutualité sociale agricole”، الصادر في تشرين الأول 2022، أقدم على الانتحار 529 مزارع من المسجّلين لديها في العام 2016. وهو التقرير الذي ترتكز إليه وسائل الإعلام الفرنسية للكلام عن انتحار أكثر من مزارع فرنسيّ في اليوم الواحد.
القطاع الزراعيّ الفرنسيّ، مثل باقي القطاعات الاقتصاديّة، مرتبط مباشرة بـ”السياسات الزراعية المشتركة” للاتحاد الأوروبيّ (منذ 1962). فهو استفاد كثيراً من تلك السياسات على مستوى مَكنَنة القطاع وزيادة المساحات الزراعية وإدخال استعمال الأسمدة
سبعة مطالب
يمكن اختصار مطالب المزارعين بـ7 هي التالية:
1- زيادة الأرباح التي تراجعت بسبب التضخّم في أسعار المحروقات والموادّ الأوّلية للزراعة، وتطبيق قوانين “إيغاليم”.
2- رفع الضريبة عن المازوت الذي يستعمل للزراعة.
3- تبسيط القوانين الفرنسيّة والأوروبيّة المتعلّقة بالحفاظ على الطبيعة والانتقال إلى الطاقة البديلة والتي تكلّف المزارعين كثيراً، خاصّة أنّ بعض هذه القوانين تحدّ من الإنتاج الزراعيّ ومن المساحات الزراعية.
4- الحصول على تقدير أفضل من المجتمع ووقف حملات الناشطين البيئيّين الذين يتّهمون المزارعين بتلويث الطبيعة وتعنيف الحيوانات.
5- وقف الدوريّات المفاجئة التي تقوم بها السلطات المختصّة على المزارعين لمراقبة تطبيقهم القوانين والتي تؤدّي إلى تأخير المواسم وتكبّدهم الخسائر.
6- السماح باستعمال كمّية أكبر من المياه، خاصّة في سنوات الجفاف، والحصول على أذونات لتخزين المياه، وقيام الدولة ببناء السدود على الرغم من رفض الناشطين البيئيّين لها.
7- تقديم البديل عن الأدوية والأسمدة التي أقرّت الحكومات منع استعمالها. فحكومة إليزابيت بورن أقرّت منع 75 مادّة تدخل في الأدوية المستعملة لمعالجة النباتات والأشجار والحيوانات، ولم تقدّم البديل.
تبدو بداية متعثّرة للحكومة وسنة حكم أصعب من سابقاتها على الرئيس ماكرون الذي شكّل حكومة جديدة أملاً بإعادة إطلاق ولايته الثانيّة… لكنّ الجائعين حاصروه وسدّوا عليه كلّ الطرق
كيف ردّ الرئيس الجديد؟
دفع تحرُّك المزارعين برئيس الحكومة الجديد إلى التحرّك سريعاً. بعد ساعات من المفاوضات مع مسؤولي النقابات الزراعية أعلن سلسة تدابير فوريّة، أبرزها:
1- تبسيط المعاملات للفلاحين لدى الدوائر المختصّة وتقصير المُهل لإنجازها.
2- إعفاء المازوت الذي لا يستعمل في السيارات من الرسوم.
3- فرض ثلالث عقوبات قاسية ضدّ المصانع والمؤسّسات التي لا تطبّق قوانين “إيغاليم”.
4- إقرار مساعدة طارئة قيمتها 50 مليون يورو.
5- وعد بالضغط على الاتحاد الأوروبي لعدم توقيع الاتفاق مع دول “مركوسور”.
تحرّك أتال ليفتح الطريق أمام حكومته، لكنّه لم ينجح حتى كتابة هذه السطور. وعوده وقراراته لم تقنع المزارعين بفتح الطرقات. يوم الأحد أعلن رئيس “الاتحاد الوطني للنقابات الزراعيّة” عن “أسبوع كلّ المخاطر”. بدأ بالفعل يوم الإثنين الفائت. إضافة إلى “انتفاضة الفلاحين”، تحرّك سائقو سيارات الأجرة في العديد من المدن. وأضرب عمّال شركة الكهرباء مطالبين بإعادة النظر في الزيادة على رواتبهم. كما أعلن المعلّمون عن إضراب يوم الخميس للمطالبة أيضاً بزيادة على الرواتب.
إلا أنّ الأخطر من كلّ ذلك هو إيداع نقابة عمال الميترو في باريس وزارة الداخلية إذناً بالإضراب بين 5 شباط و9 أيلول. وستعلن النقابة لاحقاً عن أيام الإضراب. وهو ما سيخلق مشكلة كبيرة أمام الحكومة التي تستكمل التحضيرات لاستقبال فرنسا الألعاب الأولمبية العالميّة، التي سيكون مركزها في العاصمة باريس.
إقرأ أيضاً: هل ينجح ماكرون في إنقاذ ولايته الثانية؟
ومن السويد، حيث يقوم بزيارة دولة، تطرّق الرئيس ماكرون إلى “انتفاضة الفلاحين” قائلاً: “من السهولة رمي كل شيء على ظهر الاتحاد الاوروبيّ”. ودافع عن “السياسة الزراعية المشتركة” للاتحاد. وأعلن معارضته للاتّفاق مع “مركوسور” بصيغته الحاليّة لأنه يتضمن “بنوداً لا تتناسب مع القوانين الفرنسيّة” بحسب قوله.
وفي خطاب طويل، تجاوز الساعتين، أمام “الجمعية الوطنيّة” أعلن فيه السياسة العامّة لحكومته وسط تصفيق الغالبية النيابية وصراخ المعارضة، قال غبريال أتّال إنّ القطاع الزراعي هو “قوّة” فرنسا و”يشكّل احد أساسات هويتنا وتقاليدنا”. فهل يهدّأ هذان الخطابان من غضب الفلاحين؟
تبدو بداية متعثّرة للحكومة وسنة حكم أصعب من سابقاتها على الرئيس ماكرون الذي شكّل حكومة جديدة أملاً بإعادة إطلاق ولايته الثانيّة… لكنّ الجائعين حاصروه وسدّوا عليه كلّ الطرق.